Image

لماذا يتم استرجاع صورة مخترع الذكاء الاصطناعي بشكل مهين؟

­­­لو أنك دخلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً فلعلك رأيت ذلك الإعلان الذي انتشر بشكل فيروسي، ويظهر فيه الآن تورينغ وقد أُعيد للحياة بواسطة الذكاء الاصطناعي الذي ابتكره ذلك الراحل بالذات.

ويروّج الإعلان لشركة تبيع مقررات تعليمية يُدرسها "روبوت دردشة" [يشبه برنامج شات جي بي تي الشهير]. ولعل خوارزميات البرامج التي تستخدمها قد تولت حمايتك من رؤية ذلك الفيديو حتى الآن، لكنه وكل ذلك الصخب الذي أثاره، لا يبعدان منك إلا بمقدار نقرة على الماوس.

وبما يشبه السحر، عملت الشركة السنغافورية التكنولوجية "جينيس غروب"  Genius Group على "قيامة" عبقري الرياضيات المعذب وأعطته هيئة رقمية، وعيّنته في منصب المسؤول الرئيس عن الذكاء الاصطناعي فيها ضمن خطوة تثير اعتراضات متزايدة، إلى حد ما.

ولعلي أجرؤ على القول إن ذلك المجسم الافتراضي، أو الآفاتار، المتأنق لتورينغ يبدو قاسياً ولعوباً، ويذكرك بالممثل بنيديكت كومبرباتش الذي أدى دور تورينغ في فيلم "لعبة المحاكاة" Imitation Game، لكن مع ذقن دقيق منحوت وصدر أعرض وعين أقل حوراً. ويُسمع ذلك الآفاتار متحدثاً بصوت رخيم وبلهجة متقلبة تمزج بين لكنتي شاطئي المحيط الأطلسي، أي الإنجليزية والأميركية، ويورد "لقد توفيت أنا الحقيقي قبل 70 سنة، ويا إلهي كم كنتم كلكم منشغلين أثناء غيابي، أليس كذلك؟ وعلى كل حال فإن العودة أمر حسن".

يثير ذلك الصوت لدي شيئاً من الاحتجاج والغضب [الاستياء]. إنه منفر أكثر من ذلك الصوت الذي أُعطي لمنتحل شخصية إيلون ماسك في البرنامج الإذاعي والمتلفز "ديد رينغرز" Dead Ringers الذي بُث على "راديو 4" التابع لـ "بي بي سي".

وبالنسبة إلى كثيرين يحط ذلك المجسم الافتراضي من شأن تورينغ وإسهاماته وذكراه، مما يعتبر تجاوزاً مثيراً للغضب لخط أحمر، ومرد ذلك أن تورينغ كان أحد أكثر الشخصيات البريطانية المؤثرة في القرن الـ 20، وكذلك فإن ذلك المتخصص في الرياضيات وعلم الترميز الذي اشتغل في "بلتشي بارك" أدى دوراً محورياً حاسماً في تفكيك رموز شيفرة "إنيغما" Enigma التي استخدمها الجيش النازي، وبالتالي إنهاء الحرب.

إن تورينغ رائد في العلم الحديث عن الكمبيوتر، والأب الأقدم للذكاء الاصطناعي الذي ننعم به اليوم، وبعيد تلك الإنجازات بات تورينغ ضحية المثلية الجنسية الذكورية واضطهد حتى الموت بسببها، ولولاه لكنا كلنا نتحدث الألمانية ونستعمل هواتف نقالة تستخدم لغة "فورتران". [تعتبر فورتران من أقدم لغات برمجة الأجهزة الذكية، وتحمل العبارة الأخيرة إشارة مزدوجة إلى إسهام تورينغ في هزيمة النازية وتقدم علوم الكمبيوتر].

وتكاد تنعدم أهمية أن يجد تورينغ نفسه موظفاً في شركة مرموقة، إذ صنع عباقرة "جينيس غروب" وجوهاً مصطنعة مماثلة لشخصيات تاريخياً مؤثرة على غرار ألبرت آينشتاين وماركو بولو، وفي المقابل فمن المثير أن إعادة تورينغ للحياة أثارت الغضب ضد تلك الشركة.

ويعتبر تورينغ بطلاً في نظر كثيرين، واليوم يظهر وجهه على الأوراق البريطانية النقدية (وفي لمسة حسنة فإنها تظهر على ورقة الـ 50 جنيهاً إسترلينياً المشربة بلون زهري).

في عام 2009 تلقى اعتذاراً تأبينياً من رئيس الوزراء غوردن براون، ثم رُقي ذلك إلى عفو ملكي عن إدانة تورينغ بالخدش الفاضح للحياء عام 1952، وبانتظار تخليده بوضع تمثال له عند الحافة الرابعة لميدان "ترافلغار" اللندني، يبقى الاحتفاء الأشد تأثيراً الذي ناله تورينغ متمثلاً في عمل طموح للفرقة الثنائية "بِت شوب بويز" المكرس له تحت عنوان "رجل من المستقبل"، وقد أدته بأسلوب الأداء الصوتي الإلكتروني كعمل أول في موسم حفلاتها المتجولة عام 2014.

إذاً، لماذا يجرجر تورينغ ويعاد للحياة الآن؟

سيسجل الشهر المقبل الذكرى الـ 70 لانتحاره في عمر الـ 41 سنة بأكله تفاحة حمراء حقنها بمادة "سيانيد" الفائقة السميّة، وعثر على جسده الضامر بعد أن غدا جثة نصف متآكلة، مع ثديين تضخما تحت تأثيره حقنه طوال عامين بعلاج هرموني خضع له كعقاب على جريمته، وفي خمسينيات القرن الـ 20 كان من شأن المثلية الجنسية أن توصل إلى السجن مدى الحياة، وبعد أن جرب الإخصاء الكيماوي بالهرمونات اختار تورينغ الموت.

وعلى رغم ذلك نُبش قبره وأعيد للحياة رقمياً كي يعاني إذلالات جديدة بوصفه أداة لشركة، ويرجع جزء وازن من النقد الصارم إلى أن صناع روبوت الدردشة المشار إليه آنفاً أعادو إحيائه ليس كرجل صار سلاحاً بفضل انكبابه لوقت طويل على صنع أدوات حاسوبية في كوخ [إشارة إلى تحوّل مبنى "بليتشي" إلى مقر لخبراء من "مدرسة الحكومة للتشفير والترميز" ساعدوا تورينغ في كسر شيفرة الجيش النازي].

بالأحرى لقد رسموه على هيئة شخص غبي مسكوب في هيئة تصلح لأحد طياري المقاتلة "سبت فاير" [اشتهرت في الحرب العالمية الثانية]، وذلك ما قد يولده محرك بحث على الإنترنت بشكل صورة رقمية إذا وضع في حقل البحث عبارة "بطل حرب بريطاني".

وفي المقابل يوضح كاتب السير اللامع آندرو هودج في مؤلفه عن سيرة حياة ذلك العالم المعنونة "الآن تورينغ، إنيغما"، أن الراحل كان شخصاً ميالاً للوحدة ويعشق الجري عبر أرياف البلاد كي يصنع صيته الخارجي، ولمساعدته في الحفاظ على جسد متين.

ومن بين الاكتشافات العلمية لتورينغ كلها يبقى الأكثر بقاء بينها متمثلاً في "اختبار تورينغ" الذي يشكل طريقة بسيطة ابتكرها كي تساعد في الحسم بشأن وصول أداء الآلات إلى مستوى البشر، ولطالما آمن تورينغ بأن الحاسوب قد يوصف بأنه يمتلك ذكاء اصطناعياً إذا استطاع تقليد البشر في الإجابات التي يقدمها، وتبقى "لعبة التقليد" التي صاغها تورينغ الهدف المنشود لمطوري الذكاء الاصطناعي، بمعنى أن تضحي الآلات قارة على مخادعة مستعمليها ودفعهم إلى الاعتقاد بأن برنامجها إنما هو بشر من لحم ودم.

في المقابل تبقى تلك المساحة الفاصلة بين الفعلي والاصطناعي بمثابة فاصل وجودي يجد المجتمع البشري الآن أنه يعيش فيه، ويظهر مثل على ذلك في استخدام الذكاء الاصطناعي لصنع أشباه رقمية للممثلين، وقد شكل موضوعاً أساساً للخلاف أثناء إضراب هوليوود العام الماضي.

ويملك النجوم الكبار كامل الحق في الخوف من فقدانهم السيطرة ذات يوم على أكثر ملكياتهم ربحية، أي أنفسهم بالذات، وقد تبرم الممثل توم هانكس إلى أقصى حد حينما أعيد تكوين صوته بواسطة الذكاء الاصطناعي من دون معرفته أو إذنه ليستعمل في إعلان تجاري عن معجون أسنان، وكذلك ذُعرت ابنه الممثل الراحل روبن ويليامز من مدى سهولة استدعاء صوت أبيها كي يستخدم في حلقات مقبلة عن مسلسلات لم يعد بمقدوره المشاركة فيها.

وبعد إيراد تلك الأمور كلها، وبالنسبة إلى تورينغ، أستبعد أنه سيندهش وينظر بعين الرضى إلى إعادته رقمياً للحياة، ولا يعود ذلك لأن تلك الصورة الرقمية الجديدة لها نظرات نجم يلبي الدعوة إلى حفل صباحي، بل لأن ذلك المشروع برمته يشكل برهاناً حياً حول كيفية عمل أفكار تورينغ على تكوين عالمنا، مع ملاحظة أن لتلك الأفكار إمكانات كامنة في إثارة الاضطراب لم يُقيض لتورينغ رؤية تحققها.