
الذهب.. لماذا يخسر في عالم مستقر؟!
هوت أسعار الذهب اليوم بنحو 60 دولاراً في انخفاض مفاجئ، والسبب أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طمأن الأسواق أن هناك اتفاقاً تجارياً كبيراً سيتم توقيعه اليوم مع دولة مهمة، هي بريطانيا وفق تقارير صحافية. الخبر الإيجابي لأسواق العالم واقتصاداتها لا يلائم الذهب. فهل حقاً لا ينتعش الذهب إلا وسط الخراب؟!
في عالم مضطرب تتقاطع فيه الأزمات الجيوسياسية والانهيارات المالية، يبرز الذهب كأحد أهم المؤشرات على مزاج الأسواق ومخاوف المستثمرين. ليس مجرد معدن نفيس، بل أشبه ببوصلة تشير دائماً إلى حيث تسير الثقة أو تنهار. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل ينعش الذهب حين يعمّ الخراب؟ الإجابة، برغم طابعها المجازي، تبدو دقيقة على نحو لافت؛ إذ تشير تجارب العقود الماضية إلى أن الذهب يزدهر كلما تراجعت الثقة بالنظام العالمي، أو تفاقمت التوترات التجارية والعسكرية، أو ساد القلق بشأن استقرار العملات والبنوك.
يُنظر إلى الذهب تقليديا بوصفه ملاذا آمنا في أوقات الاضطراب، وهذا ما يجعل الطلب عليه يرتفع في كل لحظة يتجه فيها العالم نحو المجهول. فعندما تضطرب أسواق الأسهم أو تتضخم المخاطر السياسية، تبدأ المؤسسات المالية والأفراد على حد سواء في تحويل أموالهم إلى الذهب، لأنه أصل لا يعتمد على وعود أحد، ولا يرتبط بثقة في حكومة أو نظام مالي. في هذه اللحظة، يصبح الذهب ليس فقط مخزنا للقيمة، بل أداة نفسية للهروب من عالم يتصدّع.
ارتبطت قفزات الذهب الكبرى دوما بكوارث محددة: ففي الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفع من حوالي 800 دولار إلى ما يزيد عن 1900 دولار في غضون ثلاث سنوات، مدفوعا بانهيار الثقة بالنظام المصرفي. وفي عام 2020، وبينما كانت جائحة كورونا تشلّ الاقتصاد العالمي وتدفع بأسواق الأسهم نحو الهاوية، تجاوز الذهب حاجز الـ 2000 دولار للأونصة، مسجلا رقما قياسيا في ذلك الحين. ومؤخرا، بين عامي 2024 و2025، ومع تصاعد الصراع بين روسيا والغرب، والتهديدات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة، والانكشاف المالي في الأسواق الناشئة، عاود الذهب صعوده مقتربا من حاجز 2400 دولار للأونصة.
المنطق الكامن خلف هذا السلوك بسيط ومعقد في آن. في أوقات الكساد أو الحرب، يفقد المستثمرون الثقة في أدوات الاستثمار التقليدية، مثل الأسهم والسندات، خصوصا مع تزايد احتمالات انخفاض النمو الاقتصادي أو ارتفاع معدلات التضخم. كما تؤدي الأزمات الكبرى إلى فقدان الثقة بالعملات، لا سيما إذا كانت الحكومات تطبع كميات ضخمة من النقود، ما يجعل الذهب – الذي لا يمكن طباعته أو استحداثه – أكثر جاذبية. كذلك، تتراجع أسعار الفائدة الحقيقية في هذه الفترات، ما يقلل من كلفة الفرصة البديلة لامتلاك الذهب، الذي لا يدر عوائد دورية بطبيعته.
لكن رغم كل ذلك، فإن صعود الذهب ليس تلقائيا ولا أبديا. فهناك فترات تباطأ فيها هذا الاندفاع، خاصة عندما تتخذ البنوك المركزية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، قرارات برفع أسعار الفائدة للحد من التضخم، وهو ما يرفع جاذبية الدولار ويكبح الذهب مؤقتا. ومع ذلك، تبقى العلاقة بين الذهب والخراب قائمة في جوهرها، إذ تشير معظم التحليلات إلى أن كل أزمة كبرى شهدها العالم خلال القرن الحادي والعشرين كانت بمثابة وقود لصعود الذهب.
يمكن القول إن الذهب لا يزدهر فقط في لحظات الأمان، بل يتوهّج أكثر في ذروة القلق. إنه المعدن الذي لا يصدأ حين تصدأ الثقة، ولا يفقد بريقه حين تفقد الأسواق بوصلتها. وبينما يظل العالم مرشحا لمزيد من التوترات، سواء في شرق آسيا، أو الشرق الأوسط، أو في الداخل الأميركي ذاته، يبدو أن الذهب لا ينتظر السلام لينتعش، بل قد يجد في الخراب فرصته الذهبية.