Image

«يوليسيس» و«الأرض اليباب»... 100 عام على انقسام العالم الأدبي إلى «ما قبل» و«ما بعد»

قبل مائة سنة، في فبراير (شباط) من عام 1922، غامرت مكتبة «شكسبير آند كومباني» في العاصمة الفرنسية، بطبع رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، كاملة، للمرة الأولى، بعدما رفضها كل الناشرين في بريطانيا وآيرلندا. وكان الفضل في ذلك لصاحبة المكتبة سيلفيا بيتش (1882- 1962)، هذه المرأة الطليعية الشجاعة التي هاجرت من أميركا إلى باريس، وأسست المكتبة عام 1919، وكان من أصدقائها مجموعة من أشهر كُتاب وكاتبات القرن العشرين: أرنست هيمنغواي، وأزرا باوند، وتي إس إليوت، وغيرترود ستاين، ومينا لوي. ومن الكتاب الفرنسيين: أندريه جيد، وبول فاليري.

عبر هذه المكتبة التي ظلت مفتوحة حتى 1941 حين أغلقها المحتلون النازيون، استطاعت بيتش أن تربط أميركا وبريطانيا وآيرلندا معاً، حسب تعبير الكاتب الفرنسي أندريه تشامسون. والمفارقة أن النازيين أغلقوها بسبب جيمس جويس نفسه. ففي ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، دخل المكتبة أحد الضباط النازيين، طالباً شراء نسخة من رواية «يقظة فينيغان» لجويس، الأكثر تعقيداً من «يوليسيس»، واستغرقت كتابتها 17 عاماً. ولكن بيتش رفضت أن تبيعه النسخة الأخيرة التي تملكها، فهددها بأن يغلق المكتبة كلها في اليوم التالي.

نقلت بيتش كتبها في اليوم نفسه إلى شقة في الطابق العلوي، وأقفلت المكتبة. وكان عقابها 6 أشهر في معتقل نازي في باريس! كما تنقل لنا في مذكراتها المعنونة باسم المكتبة «شكسبير آند كومباني» التي نشرتها عام 1959.

والآن، تعود المكتبة لتحتفل بـمرور مائة عام على إصدارها «يوليسيس»، إصدارها الأول والوحيد في تلك الفترة الذي غير المشهد الروائي العالمي للأبد، هو و«الأرض اليباب» التي غيَّرت المشهد الشعري العالمي بالقوة نفسها، والتي صدرت بعد «يوليسيس» بثمانية أشهر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1922.

احتفال مكتبة «شكسبير آند كومباني» مختلف هذه المرة. فهناك 80 كاتباً وفناناً وممثلاً وموسيقياً، سيتناوبون على تسجيل «يوليسيس» كلها، ومنهم الروائية الكندية مارغريت آتوود، والممثل الكوميدي البريطاني أدي إيزارد، والروائي البريطاني ويل سيلف، والروائي والشاعر النيجيري بين أوكري. وتبدأ هذه الفعالية الكبيرة يوم 2 فبراير، وهو اليوم الذي انطلق فيه ليوبولد بلوم يجوب شوارع دبلن، والذي عُرف بشكل واسع في الأوساط الثقافية والأدبية بـ«يوم بلوم». وهدف إحياء مئوية «يوليسيس» هو «تسليط الضوء على الرواية لإيقاظ الرغبة لدى الجمهور لقراءتها».

ولكن من يستطيع من «الجمهور» أن يقرأ «يوليسيس» إذا كان معظم المثقفين الإنجليز والآيرلنديين أنفسهم عاجزين عن ذلك؟

قبل سنوات، أجرت صحيفة «الغارديان» البريطانية استفتاء موسعاً بين الكتاب، حول قراءة «يوليسيس»، والنتيجة كانت أن 300 كاتب فقط قرأوا الرواية، وبعضهم «يشعر بالذنب»؛ لأنه لم يقرأها، أو لم يستطع إكمال قراءتها. هل السبب «سوء القراءة»، كما يعتقد ريتشارد أولمان الذي قدم للرواية في طبعة دار «بنغوين» البريطانية عام 1986؟ وقال: «إن ثيمة جويس في (يوليسيس) سهلة. وهو يستدعي أكثر الأساليب سعة لتقديمها. إنه -مثل كل الكتاب العظماء- يشعر بأن الأساليب المستخدمة في الأدب السابق لم تعد كافية. إن الشخصية الساردة في الروايات السابقة التي تدور بالقارئ حول الحدث قد اختفت، وحلت محلها في (يوليسيس) سلسلة من الساردين، وهم عادة غير محايدين، ويظهرون ويختفون، من دون أن نحدد هوياتهم، كما أن السرد فيها غير مشخص أحياناً؛ بل تدور العين –الكاميرا- بشكل عشوائي في أنحاء دبلن، مركزة على مواضع تبدو لا رابط بينها».

هل تنبع من هنا صعوبة قراءة «يوليسيس»؟ ربما، هذه المواضع التي لا رابط بينها كما يبدو، حين لا نقرأ العمل كله، أو فلنقل حالة التشظي، هي أيضاً من أبرز ما يميز «الأرض اليباب» لإليوت، وأدب الحداثة عموماً، وهي نتاج واقع خلفته الحرب العالمية الأولى المدمرة، والتي هي بدورها نتاج عالم بدا يتداعى منذ نهاية القرن الـ19، إذا استعرنا تعبير دبليو بي ييتس، في قصيدته «العودة الثانية» التي يتحدث فيها عن «قوة اضطراب جديدة تجتاح العالم» فـ«تتداعى الأشياء»، إنه عالم بدأت تسوده الفوضى، ويجتاحه «مد مغموس بالدم»، راسماً بذلك أجواء جهنمية لما يمكن أن يقود إلى خراب العالم.

ولم تُترجم هذه الرواية الصعبة إلى العربية إلا بعد 60 سنة من صدورها، وأنجزها المترجم المصري الدكتور طه محمود طه. وأكثر من ذلك، قدَّم لقراء العربية عملاً ضخماً عن أعمال الروائي وسيرته، سماه «موسوعة جيمس جويس»، وقد قضى 20 عاماً في تأليفه. والترجمة الثانية كانت للدكتور صلاح نيازي، وصدرت عن دار «المدى».