Image

مسحراتى العرب.. يقاوم «المحمول»

«زمزمى مكة» يسحر بالقناديل.. ومسحراتى المدينة يأتى على الدهماء من قباء

«أبو طبيلة» يوقظ الصائمين بالبازة فى الإمارات.. و«مفلح» اليمن يدق الأبواب

«طبال» لكل حى فى لبنان.. وشيخ الطائفة يقسم المناطق بدمشق

تعاملت الشعوب العربية مع شهر رمضان بطريقة شديدة الخصوصية،

تبرز بجلاء العادات والتقاليد التى تراعى الشعوب العربية الوفاء بها، والحرص عليها خلال هذا الشهرالاستثنائى، مهما طغت التكنولوجيا، وتطورت وسائل المعيشة، فلا يزال “المسحراتى” صامدا فى مجتمعاتنا العربية أمام طوفان التكنولوجيا الرقمية ووسائل الذكاء الاصطناعى التى ميكنت كل شىء فى حياتنا تقريبا، ولايزال الصائمون مرتبطين وجدانيا بصوته وتنغيماته ونداءاته، وعلى مدار التاريخ العربى؛ تعددت طرق وأساليب إيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور، ففى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كان الناس يدركون وقت السحور بأذان بلال بن رباح، ويعرفون المنع (الإمساك) بأذان ابن أم مكتوم، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام : “إن بلالا يؤذن بالليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم”.

مع اتساع رقعة الدولة العربية الإسلامية بدأ المسلمون يتفنون فى أساليب التسحير، وكان من أبرز هذه الأساليب ظهور وظيفة المسحراتى فى الدولة الإسلامية.

وقد عرض الفقيه والرحالة ابن الحاج فى كتابه “المدخل” لعوائد بعض أهل العرب مع أشكال التسحير، ففى القاهرة كان المسحرون يسحرون الناس بإنشاد القصائد، ويسحرون بالطبلة، يطوف بها أصحاب الأرباع وغيرهم على البيوت ويضربون عليها، وأما أهل الإسكندرية وأهل اليمن فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم: “قوموا للسحور”، وأما أهل الشام فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابة والغناء. وأما بعض أهل المغرب فإنهم يفعلون قريبا من فعل أهل الشام وهو أنه إذا كان وقت السحور عندهم يضربون بالنفير على المنار ويكررونه سبع مرات ثم بعده يضربون بالأبواق سبعا أوخمسا فإذا قطعوا حرم الأكل إذ ذاك عندهم.

زمزمى مكة

في ا أشار الرحالة “ابن جبير” فى معرض حديثه عن زيارته لمكة المكرمة فى شهر رمضان للعام 578 هجرية، إلى أن المؤذن الزمزمى كان يتولى التسحير فى الصومعة التى فى الركن الشرقى من المسجد الحرام بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم فى وقت السحور فيها داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويرددان بعده، وقد نصبت فى أعلى الصومعة خشبة طويلة فى رأسها عود كالذراع وفى طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يوقدان حتى الآن فى الحرم المكى مدة التسحير، فإذا قرب تبين خيطى الفجر ووقع التنبيه بقطع الطعام والشراب مرة بعد مرة، أنزل المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بأذان الفجر..وتكرر ذلك بشكل أو بآخر فى معظم الدول العربية.

بعد ذلك خرجت مهمة تسحير الصائمين من دائرة مؤذنى المساجد؛ بعدماعرفت معظم الشعوب العربية “شخصا” اختص بتولى إيقاظ الصائمين بالليل لتناول وجبة السحور، أو تنبيه الساهرين لموعد السحور، وعادة كان يتجول فى الطرقات ويدق بطبله وهو يردد بصوته المسموع: “اصحى يا نايم.. وحد الدايم”.

“أبو طبيلة”

عرف هذا الشخص باسم “المسحراتى” نسبة إلى وقت السحر، وهو الثلث الأخير من الليل، أو نسبة إلى وجبة السحور نفسها، وساد الاسم فى أغلب الأقطار العربية، وإن أطلق عليه بعض الشعوب تسميات أخرى مختلفة، وإن كانت تدور حول هذا المعنى.

فمثلا فى الإمارات يعرف المسحراتى بـ “أبو طبيلة”، وذلك لاستخدامه طبلة تسمى بالبازة يطوف بها فى الشوارع ويقرع عليها بعصا رفيعة، لينشد بعض العبارات منها “يا نايم الليل قوم اتسحر، قوم يا نايم قوم، قومك أحسن من نومك”، كما يطلق عليه هذا الاسم فى المملكة العربية السعودية، وإن اختلف النداء قليلا حيث ينادى هناك بنداء “قم يا نايم اربح الغنايم قوم يا نايم اكسب الغنايم قوم يا نايم اذكر الحى الدايم”.

ويحكى الأديب حسين على حسين، ذكرياته مع مسحراتى المدينة المنورة، قائلا: فى الهزيع الأخير من الليل، يتناهى لسكان الحارة صوت (المسحراتى)، حيث كانت المدينة المنورة تتكون من عدة حارات أو «أحواش» كنت أعرف مسحر حارتنا، كان يأتى كل يوم من قباء، على حمارة صغيرة دهماء، وبجانبه سحوره، وكان يقف أمام كل منزل، ليطلق نداءه الصداح (يا نايم وحد الدايم!) كان خفيف الروح. طيب القلب. يمر على المنازل، التى يسحرها يوم العيد، ليطمئن على أدائه، وليهنئ السكان بالعيد

بينمافى الكويت فيسمى المسحراتى «بوطبيلة»، بينمايطلق عليه أهل اليمن اسم «المفلح» حيث ينادى عليهم بدق الأبواب مع عبارات تنبيه منغمة لتجهيز السحور.

طبال الشام

أما فى الشام، وبالذات فى لبنان فيطلقون عليه «الطبال»، وهناك يرتدى زيا خاصا فى رمضان، هو دشداشة بيضاء، تشبه العباية، والاسم نسبة إلى أنه يحمل بيده الطبلة التى يوقظ الناس بها فى شهر رمضان لتناول السحور، وغالبا ما يكون لكل حى أو منطقة فى لبنان والمناطق الشعبية بسوريا وبعض مناطق الأردن طبال خاص بها، وعادة ما يتلقى الطبال مبلغا من المال آخر أيام شهر رمضان الكريم، بما يعرف بالعيدية.

ومثلما انتهجت كل المهن نظام الطوائف القائم على هرمية وتراتبية، فقد كان لطائفة المسحراتية فى دمشق شيخ هو بمثابة رئيسهم الأعلى، يختبر المسحرين الجدد ويدربهم على قواعد العمل وضوابطه، ويحدد لهم مناطق عملهم ويحاسبهم حال التقصير ويكنون له الولاء والاحترام، فهو المعنى بشئونهم وحلّ ما يمكن أن ينشأ بينهم من خلافات، ربما بسبب تعدى أحدهم على منطقة مسحر آخر، ويتحصل من كل منهم مبلغا معلوما نظير هذه المهمة، يليه فى المسئولية “النقيب” وهو نائب شيخ الطائفة.

فيما أدى بعض المسحراتية فى فلسطين أدوارا وطنية إضافية تمثلت فى نقل الرسائل والتعليمات بين الناشطين السياسيين ضد الاحتلال الصهيونى.

نفار المغرب

فى دول المغرب العربى تطلق مجتمعاتها أسماء مختلفة على المسحراتى، ففى المملكة المغربية يسمونه “النفار” نسبة إلى آلة نفخ نحاسية طويلة شهيرة، تسمى “النفير” وهى ما زالت موجودة بين أهل القرى والأحياء الشعبية، ويرتدى النفار لباسا تقليديا يعكس التراث المغربى، كالجلباب والطاقية أو الطربوش الأحمر المغربى، ويجوب الشوارع لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور منشدا: «لا إله إلا الله لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ربى وحده، لا شريك له هو الوحيد سبحانه»، مع النفخ بالنفار 3 مرات، وهى عادة يتوارثها الآباء عن الأجداد، فيما يطلق المغاربة على المسحراتى لقب «الغياط»، طبقا للباحث فى التراث الشعبى أسامة الخضراوى، بجامعة محمد الخامس بالرباط، على المسحراتى الذى يستعمل مزمارا من الحجم الصغير.

وفى ليبيا يسمى «النوبادجى»، نسبة إلى طبلة كبيرة تسمى «النوب» يضرب عليها بعصاتين..مع نداءات موسيقية منغمة تتماشى مع الإيقاع.

دفترالسودان

فى السودان يطلق عليه المسحراتى، ويقوم بطرق أبواب الحى ومعه طفل صغير يحمل فانوسا فى يده، ودفترا مسجلا فيه أسماء الحى، وينادى كل واحد باسمه مردداالعبارة الشهيرة بالسودان «اصحوا يا نايمين، اسحروا وقولوا نوينا نصوم رمضان، اصحى يا نايم وحد الدايم».

الاسم نفسه “المسحراتى” يطلق فى مصر؛ ويقال إن أول من صاح بالتسحير هو الوالى (عنبسة بن إسحاق) فى سنة (23 هجرية/ 852 ميلادية)، حيث لاحظ أن الناس يفوتهم وقت السحور دون أن يتنبهوا أو ينبههم إلى ذلك أحد، فتصدى لهذه المهمة، وأمسى يطوف شوارع القاهرة ليلا منبها أهلها لوقت السحر، ومن مآثره، كما روى المؤرخون، أنه كان يذهب على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، لممارسة مهمته وهو ينادي، قائلا: “عباد الله تسحروا فإن فى السحور بركة”، كما تصدت بعض النساء ذوات الصوت الجميل فى العصر الطولونى لمهنة “التسحير”، حيث كن يرددن الأناشيد من خلف النوافذ فإذا ما تناهى الصوت إلى واحدة نبهت الأخريات لتوقظ أهل بيتها.. ومن المفارقات اللطيفة أنه كانت توجد مسحرة حسناء غازلها الشاعر «زين الدين الوردي»، بقوله:

«عجبت فى رمضان من مسحرة - بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت

قامت تسحرنا ليلا فقلت لها - كيف السحور وتلك الشمس قد طلعت؟»

أما فى الريف المصرى فقد كان عمدة القرية هو الشخص الذى يقوم بنفسه بتسحير الناس.. وفى الوقت الراهن مازال المسحر اتى يجول فى مصر المحروسة وشوارعها، مرددا على نغمات طبلته «إصحى يانايم وحد الدايم» وعادة ما يحرص الأطفال وبعض الكبار على أن ينادى المسحراتى على أسمائهم مصحوبة بألقاب فخمة أو محببة، وعادة ما يحصل المسحراتى على نفحات نقدية وعينية يومية من البعض، بينما يحرص الجميع على منحه العيدية فى آخر ليالى رمضان.

دور اجتماعى

نظرا لأهمية دوره الاجتماعي؛ لفتت شخصية المسحراتى العديد من الرحالة والمستشرقين، فعكفوا على تقديم وصف دقيق له، وتسجيل مردداته وأحيانا تحليلها موسيقيا، على نحو ما نجد لدى “إدوارد وليم لين” وعلماء الحملة الفرنسية، الذين رصدوا هذه الشخصية فى كتابهم “وصف مصر”

لقد أدى المسحراتى مهمته فى الماضى سيرا على الأقدام، برفقة الأطفال الصغار، وفى العصر الحديث مع تعدد الأحياء وتراميها بات بعضهم يستخدم أحيانا دراجة، وفى الخليج هناك من يستخدم السيارة وفى الأشهر؛ يستخدم المسحراتى طبلة كانت تعرف قديما بــ “البازة”، يُمسكها بإحدى يديه، فيما يمسك بالأخرى سيراً من الجلد، أو خشبة يقرع بها الطبلة بها، والمسحراتى من الشخصيات المحببة للأطفال، الذين يحرصون على الانضمام إليه وهو يسير بين طرقات الحى، كما أنهم يحبون الاستماع لصوته وهو يناديهم بأسمائهم، ويؤدى الأغنيات التى يحبونها ويروى لهم القصص الطريفة.

وكان للمسحراتى فنون عديدة يلجأ إليها لتنبيه النائمين للسحور، فالبعض كان يستخدم الفناجين النحاسية وذلك بطرقها بعضا ببعض، والبعض الآخر كان يؤدى الابتهالات الدينية أو القصائد المادحة فى شهر رمضان.. المهم أن الناس ينامون وهم مطمئنون إلى أن صوت المسحراتى وإيقاع طبلته المميز سوف يوقظهم لتناول وجبة السحور، بترديداته الأثيرة: “قوموا إلى سحوركم.. رمضان جاى يزوركم”، ورغم انتشار آلات التنبيه وتعود الناس على السهر حتى وقت السحور إلا أن هناك أماكن لا تزال تعتمد كلية على المسحراتى لإيقاظ أهلها لتناول طعام السحور حتى الآن، على نحو ما نجد فى العديد من المجتمعات النائية والبوادى.

مهنة ثوابية

مهنة المسحراتى من المهن الثوابية، التى تقدم دون مقابل سوى ما يحصل عليه المسحراتية فى صورة هدايا ومكافآت من أهالى الحى، وقد تتوارث بين العائلات، وغالبا يضطلع بها أصحاب المهن التى يكسد سوقها فى شهر رمضان، كما أنها تجذب إليها العديد من الهواة ومحبى الخير

لقد أصبحت مهمة المسحراتى ليس لإيقاظ النائمين فحسب، بعد ماأصبح الناس لا ينامون فى ليالى رمضان، وإذا فعلوا قام المنبه والهاتف المحمول بدور المسحراتى، لكن “المسحراتى” سيظل فى المجتمعات العربية رمزا للتعبير عن الفرحة بقدوم رمضان، وأحد أبرز مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم.