Image

«عين الحسود»... تنجيمٌ أم طلسمٌ يصدّ الضرر والشرّ؟

يحتفظ متحف الآثار في جامعة الملك سعود بأربعة ألواح تحوي بقايا رسوم جدارية مصدرها قرية الفاو التي تقع على أطراف الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية، وتُعد من أكبر المواقع الأثرية وأشهرها في المملكة العربية السعودية. أنجزت هذه الجداريات بالألوان الترابية على قاعدة من الجص الأبيض، في المرحلة الممتدة من القرن الأول إلى القرن الثاني للميلاد، وأغربها دون شك لوحة قيل إنها تمثّل صور بروج فلكية، احتار البحّاثة في تحديد هويّتها ومعناها.

وصلت هذه اللوحة بشكل مجتزأ للأسف، وتحوي كتابة باللغة العربية الجنوبية القديمة ضاع جزء كبير منها، وما تبقّى منها مبهم ولا يسمح باستعادة فحواها. في وسط الصورة، تحضر منصّة مؤلفة من ثلاثة مثلّثات متراكبة، يعلوها عمود تنبسط من فوقه مساحة بيضاوية تحدّها سلسلة من القرون المسنّنة. تحوي هذه المساحة البيضاوية مساحة بيضاوية أخرى تتوسّطها بقعة سوداء داكنة، مما يوحي بأنّنا أمام عين بشرية صُوّرت بشكل زخرفي. تستقرّ هذه العين الشاخصة ببؤبوئها الأسود في وسط التأليف، ويعلوها عمود يشكّل امتداداً للعمود السفلي، تحدّ رأسه دائرة ترتفع في الأفق.

حول هذه العين المحدّقة، تحضر كائنات عدة تشكّل من حولها حلقة دائرية. في القسم الأعلى يحضر من جهة، فهد أبيض مرقّط ببقع سوداء، ومن الجهة الأخرى أفعى صفراء لها رأس تنين. في القسم الأسفل، يحضر من جهة، أسد عسلي، ومن الجهة الأخرى عقرب أسود. الدواب الثلاث مصوّرة جانبياً، وكلّ منها تتقدّم برأسها في اتجاه العين المحدّقة في الوسط، كأنها تهمّ بالهجوم عليها. في المقابل، يحضر العقرب بشكل مواجه، واللافت أنه يلدغ بذنبه العين، ويتقدّم برأسه نحو الأسفل، على عكس البهائم الوحشية التي ترافقه في هذه الحلقة. في الطرف المقابل للأفعى والعقرب، يظهر قوس ونشاب وبقايا فرس، مما يوحي بأننا أمام قنطور رامٍ ضاع الجزء الأكبر منه، والقنطور كائن مركّب، نصفه العلوي رجل، نصفه السفلي فرس. وفي الطرف المقابل للأسد والفهد، يظهر قرن مقوّس، مما يوحي بأننّا أمام كبش ضاع أثره بشكل شبه كامل، وبقي منه قرن من قرنيه.

يصعب تحديد هوية هذه الصورة، كما يصعب تحديد معانيها الخلفية، والأكيد أنها تؤدّي وظيفة ما تتعدّى طابعها التزييني. يمثّل الفهد فصيلة من السنوريات المتوحشة التي عُرفت بسرعتها وحدّتها، وكذلك الأسد، وهو «جبار الوحوش، ولا يرجع من قدام أحد»، كما جاء في التوراة (الأمثال 30: 30). ويُعرف العقرب بلدغة ذيله السامة، وهو من كائنات الصحراء القاحلة، كما تشير كذلك التوراة: «القفر العظيم الْمَخُوف، مكان حيات محرقة وعقارب وعطش حيث ليس ماء» (التثنية 8: 15). أما الحية التي رأس تنين، فهي حيّة الماء، كما أنها في أساطير اليونان دابة تُعرف بالعُدار، وفي أساطير العرب دابة في اليمن، تفوق بقوّتها عُدار اليونان. أمّا الكبش، فتتعدّد صفاته ورموزه، ولاشتهاره بالقوة وحب النزال وخفة الحركة، شبّهوا به ملوك مادي وفارس، وشبّهوا به أوليس، كما يتضح من قول هوميروس في هذا البطل: «يجول بين جموع المقاتلين مثل كبش/ لا أستطيع تشبيهه في الحقيقة إلا بالكبش/ الذي يشق طريقه وسط القطيع ذي الصوف اللامع» (الإلياذة 3: 196ــ198). يبقى القنطور الرامي، والقناطير في الأساطير اليونانية بريّة كالخيل الجامحة، أمّا القنطور الرامي فيُعد رمزاً لإله الحرب عند البابليين.

تحيط هذه الكائنات بالعين المحدّقة مما يوحي بأننا أمام طلسم وقائي يحصّن النفس ويصدّ عنها العين الضارة، وهذه العين معروفة في اليونان، وتُسمّى «أبو تروبك»، أي الصدّ، وأشهر صورها وأكثرها تعبيراً فسيفساء من أنطاكية تعود إلى القرن الثاني، تمثّل عيناً محدّقة يخرقها سيف ومجرفة، ويلتفّ من حولها ذئب وفهد وأفعى وعقرب وسحلية، تنقضّ معاً عليها في حركة جامعة. من جهة أخرى، توحي الكائنات التي تحضر في جدارية قرية الفاو بأنها تصوّر في المقام الثاني مجموعة نجوم منسقة في القبة السماوية، تمثّل سلسلة من البروج المحلية الخاصة. هكذا يحضر العقرب كصورة لكوكبة العقرب، ويحضر القنطور الرامي كصورة لكوكبة الرامي التي تُعرف كذلك بكوكبة القوس، ويرجع أصل تسمية هذا الکوکبة إلى البابليين القدماء الذين اختزلوا صورتها على شكل رامٍ يقذف بقوسه نحو نجم العقرب. في هذا السياق، أيضاً، تمثل الأفعى المائية كوكبة الشجاع، أكبر الكوكبات في السماء، ويمثل الأسد كوكبة الأسد، وهي الكوكبة التي عُرفت كذلك بكوكبة النجم.

من ظفار يم التي كانت قديماً عاصمة الدولة الحميرية، وباتت اليوم قرية يمنية صغيرة، خرجت آثار تحمل صوراً منقوشة مشتّتة لبعض البروج التي عُرفت في جنوب الجزيرة العربية. ومن خربة التنور التي تقع في الجهة الشمالية من محافظة الطفيلة في الأردن، خرج نقش فني نبطي يحوي دائرة بروج أثارت عدداً كبيراً من الباحثين. تعود جدارية قرية الفاو إلى مرحلة زمنية سبقت ظهور هذه البروج، كما أن صور بروجها تختلف بشكل كبير عن صور البروج اليمنية والأردنية. من هنا، يبقى السؤال مرفوعاً: ما هي وظيفة هذه الجدارية؟ أهي طلسم يصد شر العين؟ أم هي تنجيم ما رافق تأسيس المبنى الذي وجدت موقعاً فيه؟ في انتظار اكتشافات أخرى من هذا الطراز، لا نملك سوى القراءات التأويلية الافتراضية.