14 أكتوبر.. ثورة غيرت مسار اليمن ورسمت طريق الوحدة والحرية
في كل عام، يعود يوم 14 أكتوبر ليُعيد إلى ذاكرة اليمنيين واحدةً من أعظم محطات النضال الوطني في تاريخهم الحديث، ثورةٌ لم تكن مجرد حدثٍ عابر، بل تحولاً جذرياً في وعي الشعب اليمني ومسار تاريخه، إذ أسقطت أغلال الاستعمار البريطاني، وأعلنت ميلاد الحرية في جنوب الوطن، وفتحت الطريق أمام الوحدة اليمنية الكبرى.
وعلى الرغم من الجراح العميقة التي خلفتها الحرب خلال الأعوام الماضية، فإن اليمنيين يواصلون احتفالاتهم الوطنية، متمسكين بالأمل، ومؤمنين بأنّ شعلة الثورة لا تنطفئ مهما اشتدت الأزمات. جاءت الذكرى الـ62 لثورة 14 أكتوبر هذا العام بعد أسابيع قليلة من الاحتفال بالعيد الـ63 لثورة 26 سبتمبر المجيدة، وكأن القدر أراد أن يجمع بين الثورتين في الذاكرة والوجدان، لتذكير الأجيال الجديدة بأن دماء الأحرار في الشمال والجنوب امتزجت على طريق الحرية والجمهورية والوحدة.
هذه المناسبة ليست مجرد ذكرى للاحتفاء، بل رسالة متجددة للأجيال اليمنية بأن الثورة ما زالت حية في الضمير الوطني، وأن قيمها في النضال، والتضحية، والإصرار على الاستقلال والكرامة، ما زالت تشكل الركيزة الأساسية لأي مشروع وطني جامع.
ثورة غيرت الواقع اليمني
مثلت ثورة 14 أكتوبر 1963م حدثاً فاصلاً في التاريخ اليمني الحديث، إذ أنهت أكثر من 129 عاماً من الاستعمار البريطاني في الجنوب، وأعادت لليمنيين كرامتهم وحقهم في تقرير مصيرهم. كانت تلك الثورة امتداداً طبيعياً لثورة 26 سبتمبر التي اندلعت قبلها بعام واحد في شمال اليمن ضد الحكم الإمامي، فكما قاوم أبناء الشمال الاستبداد والظلم الداخلي، حمل أبناء الجنوب السلاح في وجه الاستعمار الخارجي، لتتجسد بذلك واحدية الهدف والمصير بين جناحي الوطن.
ولم تكن ثورة أكتوبر وليدة لحظة، بل جاءت نتاج تراكمي لنضال وطني طويل، شارك فيه المثقفون، والمقاومون، والعلماء، والقبائل، الذين أدركوا جميعاً أن التحرر لا يتحقق إلا بوحدة الصف والإرادة.
وحدة الهدف والمصير
منذ فجر ثورة سبتمبر، توافد المئات من أبناء الجنوب إلى الشمال للانضمام إلى صفوف الضباط الأحرار والثوار، مدركين أن المعركة واحدة، وأن الاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال وجهان لعملة واحدة.
وكان من بين أولئك الأبطال الشهيد راجح بن غالب لبوزة، الذي شارك في ثورة سبتمبر، قبل أن يعود إلى ردفان ليشعل شرارة أكتوبر الأولى، مسجلاً اسمه في سجل الخلود.
كما التحق العديد من شباب الجنوب بالكليات الحربية في الشمال، ليتدربوا ويعودوا لاحقاً وقوداً لثورة أكتوبر، مسلحين بالوعي الوطني والإرادة الحرة. وقد ساهم المتطوعون من أبناء المحافظات الجنوبية في دعم الثورة في الشمال، إدراكاً منهم أن الحرية لا تتجزأ، وأن انتصار أحد جناحي الوطن هو انتصار للآخر.
الطريق إلى الثورة
بدأ الإعداد الفعلي لثورة 14 أكتوبر في منتصف عام 1963م، حين عُقد اجتماع حاسم في منزل القاضي عبدالرحمن الإرياني بصنعاء، ضم قيادات وطنية من الشمال والجنوب، مثل محمد محمود الزبيري وناصر علوي السقاف وعبدالله المجعلي وآخرين.
خلص الاجتماع إلى ضرورة فتح جبهة مقاومة في الجنوب لتخفيف الضغط عن ثورة سبتمبر في الشمال، فتم الاتفاق على تشكيل لجنة اتصال مهمتها التحضير للثورة، من 12 عضواً يمثلون حركة القوميين العرب وتجمع القبائل.
تحولت مدينة تعز لاحقاً إلى مركز للإعداد والتدريب والتخطيط للثورة، حيث اجتمعت فيها القوى الوطنية الجنوبية المقاومة للاستعمار، وشكلت في أغسطس 1963م الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني، التي تولت قيادة العمل الثوري، والتنظيم السياسي والعسكري لمرحلة التحرير.
الشرارة الأولى من ردفان
مع تصاعد التحضيرات، عاد الشهيد راجح بن غالب لبوزة من الشمال إلى منطقة ردفان في لحج، برفقة مئة من رفاقه الذين قاتلوا في صفوف ثورة سبتمبر. وما إن وصل حتى حاولت سلطات الاستعمار البريطاني نزع سلاحه، فرفض بشجاعة، معلناً أن السلاح الذي حمل لتحرير اليمن لا يمكن أن يسلم للمستعمر.
في الثالث عشر من أكتوبر 1963م، قامت دورية بريطانية باختطاف أحد رفاقه في منطقة الحبيلين، فهب لبوزة مع رجال القبائل لتحريره، وفي صباح الرابع عشر من أكتوبر دارت أولى معارك الثورة بين الأحرار وجيش الاحتلال، واستمرت حتى استُشهد القائد لبوزة وهو يقاتل بشرف دفاعاً عن حرية وطنه.
وباستشهاده، اشتعلت جذوة الثورة في كل أرجاء الجنوب، وبدأت مرحلة الكفاح المسلح المنظم ضد الاحتلال البريطاني.
ردفان.. معقل البطولة
لم تكن ردفان مجرد نقطة بداية، بل كانت رمزاً للمقاومة وموقعاً استراتيجياً مهماً يربط بين الضالع وأبين ولحج، ما جعلها مركزاً حيوياً لانطلاق العمليات ضد القوات البريطانية.
تميزت تضاريسها الجبلية الوعرة بأنها حصن طبيعي للمقاتلين، فكانت مقبرةً للغزاة، وقلعةً للصمود، وميداناً لتلاحم أبناء الجنوب في مواجهة أقوى إمبراطورية استعمارية في ذلك العصر.
من الثورة إلى النصر
بعد استشهاد لبوزة، أصدرت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني بيانها التاريخي في 23 أكتوبر 1963م، أعلنت فيه استمرار الكفاح المسلح حتى دحر الاستعمار، مؤكدة أن دماء الشهيد ورفاقه لن تذهب سدى.
وخلال أربع سنوات من النضال البطولي، خاضت فصائل المقاومة الوطنية معارك ضارية في أكثر من عشر جبهات، وقدمت خلالها قوافل من الشهداء، حتى تحقق النصر التاريخي في 30 نوفمبر 1967م بإعلان الاستقلال الوطني الكامل ورحيل آخر جندي بريطاني من أرض الجنوب.
لقد كانت ثورة 14 أكتوبر نموذجاً في الصبر والوحدة والتضحية، إذ تمكنت بعد الاستقلال من توحيد 23 سلطنة وإمارة جنوبية في كيان وطني واحد بهوية يمنية خالصة، وهو إنجاز وطني غير مسبوق في تاريخ المنطقة.
أكتوبر والوحدة اليمنية
لم تكن ثورة أكتوبر نهاية المطاف، بل كانت الخطوة الكبرى نحو تحقيق الوحدة اليمنية التي ظلت حلماً يراود الأحرار منذ عقود. فقد جمعت الثورتان، سبتمبر وأكتوبر، شتات الوطن، وأرست معاً الأسس الفكرية والسياسية لوحدة الأرض والإنسان.
ولذلك فإن احتفال اليمنيين بهذه المناسبة ليس مجرد استذكار للماضي، بل تجديد للعهد بأن يظل اليمن وطناً موحداً، حراً، مستقلاً، قادراً على تجاوز جراحه، وماضياً في بناء مستقبل يليق بتضحيات أبنائه.
دروس خالدة
إن ثورة 14 أكتوبر لا تزال حتى اليوم مدرسةً في الوطنية والإصرار والعزيمة، تعلم الأجيال أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن إرادة الشعوب أقوى من أي سلاح. لقد غيّرت الثورة وجه اليمن، وأعادت إليه مكانته وكرامته، وأثبتت أن إرادة الأحرار لا تُقهر مهما طال ليل الاستبداد.
واليوم، وبين أنقاض الحرب وآلامها، يتذكر اليمنيون بطولات أسلافهم ليجدوا فيهم الإلهام لمواصلة النضال من أجل السلام والوحدة والتنمية. فالثورة التي حررت الأرض لا بد أن تُستكمل بثورة تبني الإنسان، وتعيد للوطن بهاءه واستقراره.
إن ذكرى 14 أكتوبر ليست فقط يوماً وطنياً، بل ميلاد وطني متجدد، يجدد الإيمان بأن اليمن سيظل واحداً، قوياً، عصياً على الانقسام، وأن راية الحرية التي رفعها راجح لبوزة ورفاقه ستظل خفاقة في سماء الوطن مهما تعاقبت العواصف.
وهكذا تبقى ثورة 14 أكتوبر المجيدة ثورةً خالدة غيرت حياة اليمنيين، ورسمت معالم الطريق إلى الوحدة، وبقيت منارة تضيء درب الأجيال نحو وطنٍ آمنٍ، حرٍ، مزدهرٍ، ومستقبلٍ يستحقه أبناؤه الأحرار.