Image

قبضتها كانت رقيقة .. «قصة قصيرة» لــ صفاء عبدالصبور

حل المساء وكأن شيئًا لم يحدث، فالحياة تسير والعالم يضج من حولى وتَعج الشوارع بضحكات البشر المدوية، فقط مشاعر الندم والحسرة تأكل قلبى أنا وحدى

فقط البركان السائر بداخلى أنا.

خُيل إلىّ أن العالم بأسره سينتفض لرحيلها، وأن الحيوان والجماد سيفتقدها وينوح الطير لأجلها، ويتشارك معى الجميع حزنى الثقيل.

حقيقةً نحن لا نعرف قيمة الأشياء الثمينة إلا بعد خسارتها.

في الماضى لاحت أمام عينى الزائغتين أحلام الثراء، فأسرتنى وسحرت قلبى فتبعتها مغمض العينين دون أن أدرك ثمن الغربة إلا بعد فوات الأوان.

كنت مُدللها، ابن عمرها وكل ما تمتلك بالحياة، الشقى الذي أنفقت من أجله عمرها وصحتها، الذي آوته من خوفٍ وأطعمته من جوعٍ وحاكت له رداء الستر والطمأنينة. تركتها لأجل جمع المال في الغربة.

شهوة كنز المال استشرت بداخلى فجعلتنى لا أستشعر الأعوام التي انقضت من عمرى في الغربة والأعوام التي انقضت من عمرها في الوحدة والعزلة والوهن والدموع، نعم لقد سلبتها معنى الحياة الدافئة مع ابنها الوحيد وأحفادها الذين كانوا يزينون أيامها، أخذتهم معى وتركتها خلفى للألم ووحشة الجدران والأبواب المؤصدة التي لا يطرقها أحد. استمعت لهمسات زوجتى في أذنى بأن نتركها بمنزلها ونؤمن لها سبل الراحة بالمال، من ثم تركتها لقسوة الأيام والليالى الباردة الخاوية ولم أصغ لتوسلاتها بأن أظل بجوارها.

في كل إجازة لى بمصر كنت أجد تغيرًا قد طرأ عليها، كانت تزداد تجاعيد وجهها الباسم وانحناءات ظهرها ويشتعل الشيب في رأسها أكثر، وفى الزيارة الأخيرة بدأت تضعف ذاكرتها وبدا عليها الهوان والهزل وأخبرتنى أنها بكل ليلة تحتاج لمن يدلك لها جسدها المنهك بسبب تآكل المفاصل وهشاشة العظام.

ظننت أننى عندما أغدقت عليها بالمال، وملأت منزلها بأحدث الأجهزة والمفروشات قد أرحت ضميرى المتبلد، بيد أنها ما كانت بحاجةٍ سوى ليدٍ حانية تُربت على كتفها، لم تكن بحاجة سوى مطالعة وجهى كل يوم، ما كانت بحاجة إلا للأنفاس الدافئة في المنزل وضجيج الصغار.

لقد كانت تميمة حظى بالحياة والجواد الذي امتطيت ظهره كى أبلغ آمالى.

قبضة يديها الدقيقتين كانت رقيقة وحانية لدرجة أنى كنت أخشى أن أضغط عليهما فتنكسران.

ما كانت لتستحق ولدًا عاقًا مثلى تركها لظلمة منزلها الذي كان كالقبر يطبق على الروح، ما كانت لتستحق نهاية كهذه، أن تواجه سكرات الموت بمفردها دون أن أكن بجوارها أنا وأحفادها نلتف حول سريرها الدافئ والدعوات والتوسلات لله تملأ الأرجاء بأن يمد عمرها وتظل بجوارنا، فتتطلع نحوى بعينيها الضئيلتين لكنهما كانتا حتمًا سيمتلئان بالرضا بأن وجهى هو آخر شىء تراه قبل أن يُغمضا للأبد.. ولكن!.

لقد حُرمت الحياة الكريمة والوفاة الكريمة ففارقت الحياة دون أن يلتفت لرحيلها أحد إلا بعد مرور بضعة أيام بسبب رائحة جسدها التي لاحظتها الجيران.