توحيد الألوهية.. وإمكانية حوار الأديان

09:47 2022/07/31

من يبحث في التشريعات والأحكام الواردة في الكتب السماوية، حتماً سوف يجد العديد من القواسم المشتركة فيما بينها، وفي مقدمتها توحيد الألوهية بل هو الهدف الرئيسي والأول لها جميعاً، ولا خلاف حول ذلك فجميعها تؤكد بأن الله تعالى هو وحده من يستحق العبودية والطاعة. وهذا هو القاسم المشترك الأقوى بين كل الديانات السماوية، فأتباع جميع الديانات يؤمنون بأن الله تعالى هو خالق الكون ومالكه، هذا بالإضافة للتوافق فيما بينها في العديد من الجوانب الأخلاقية والسلوكية الفاضلة، أو باختصار جميعها تدعو للفضيلة وتنهى عن الرذيلة وتحث على الإيجابية والخير وتنهى عن السلبية والشر، وتدعو إلى عبادة الله تعالى وإن تنوعت أشكال وطرق العبادات من ديانة إلى أخرى، قال تعالى (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله). 
كل تلك القواسم المشثركة بين الديانات السماوية وفي مقدمتها توحيد الألوهية، كانت كفيلة بإحداث نوع من التقارب والتوافق والحوار بين أتباعها بشكل أو بآخر، وكانت كفيلة بإحداث نوع من التآلف والتقارب فيما بينهم، كون معبودهم واحدا وإلههم واحدا، وكان من المفترض عقلاً ومنطقاً أن يقفوا في صف واحد وخندق واحد ضد المنكرين والجاحدين لتوحيد الألوهية، وفي أسوأ الأحوال إذا لم يكن بينهم تقارب وتوافق يكون بينهم تعايش وقبول بالآخر واعتراف بالآخر وعدم كراهية للآخر. وهذا يدفعنا لطرح سؤال مهم جداً وهو: لماذا إذن حدثت ولا تزال تحدث كل تلك العداوات والصراعات بين أتباع الديانات السماوية ، والجواب بكل بساطة هو عدم إلتزامهم بما ورد في كتبهم السماوية واتباعهم لأهوائهم ونزواتهم وأطماعهم؟ وخصوصاً رجال الدين والسلطة في كل ديانة سماوية، فهم وبدافع الخوف على مصالحهم الشخصية وأطماعهم السلطانية، والتعصب لأهوائهم الفكرية، ذهبوا بعيداً في صناعة العداوة والكراهية ضد الآخر الديني، وذهبوا بعيداً في تشويه الديانات السماوية الأخرى وصولاً إلى إنكارها وجحودها والكفر بها، ولم يضعوا للقواسم المشتركة بين الديانات السماوية أي وزن أو اعتبار، ورغم أن جميع اتباع هذه الديانات يجمعهم توحيد الألوهية، إلا أنهم لم يترددوا في قتل بعضهم البعض، وفي شن الحروب الوحشية ضد بعضهم البعض، تحت تأثير التعبئة الدينية الخاطئة المشحونة بالتعصب والكراهية والتشدد والتطرف الديني، التي تتجاوب مع أصحاب الأطماع التوسعية والاستعمارية من القادة والسلاطين والأباطرة.
فكم شنت من حروب استعمارية وتوسعية وسلطوية فيما بين أتباع الديانات السماوية (الحروب الصليبية إنموذجاً)، وكم تمت من تصفيات عرقية وجرائم وحشية من جهات عنصرية ومتعصبة ضد الآخر الديني. وللأسف، تم تغليفها بغلاف ديني لتتحول من حروب وجرائم وحشية إلى حروب مقدسة. وبهذا الشكل تم استغلال الديانات السماوية استغلالاً سلبياً لمصلحة السياسة والسلطة والحكام والأطماع التوسعية، وهكذا ممارسات تسببت في إثارة المزيد من الأحقاد والكراهية بين أتباع الديانات السماوية. وكل ذلك للأسف باسم الدين رغم براءة الأديان السماوية من كل ذلك، فلم تدعو الأديان يوماً لشن الحروب العدوانية ضد أتباع الديانات الأخرى، ولم تدعُ يوماً إلى ممارسة الجرائم الوحشية والتصفيات العرقية والدينية ضد الآخر الديني، قال تعالى (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
كل ذلك يؤكد بأن الأطماع التوسعية والسلطانية والاستعمارية هي الدافع الرئيسي لصناعة الكراهية والعداوة بين أتباع الديانات السماوية، وقيام رجال الدين بتفسير وتأويل النصوص الدينية خارج سياقاتها اللفظية والمعنوية واللغوية، هو ما ساعد رجال السياسة والسلطة وقادة الحروب في تغليف أطماعهم وسياساتهم وحروبهم بغلاف ديني ، وهو ما جعل كل تلك الحروب تظهر بمظهر ديني، رغم أنها حروب توسعية واستعمارية ولا علاقة للدين بها، فلا يوجد أي نصوص دينية سماوية صريحة تبيح سفك الدماء بدون حق، أو تبيح الاعتداء على الآخرين ونهب أموالهم وهتك أعراضهم واستحلال نسائهم، وإجبارهم على ترك دينهم واعتناق ديانة أخرى، فالتشريعات السماوية تدعوا إلى المحبة والتسامح والتعارف والتعايش السلمي والحرية الدينية، قال تعالى (لا إكراه في الدين).
إذن بالإمكان إقامة جسور للتعايش والتعارف والتوافق بين أتباع الديانات السماوية عبر الحوار الديني والحضاري، وما يشجع على ذلك هو وجود العديد من القواسم الدينية المشتركة فيما بينهم وفي مقدمتها توحيد الألوهية، وستكون الحجج والبينات والدلائل العقلية والمنطقية والعلمية والآيات الكونية المحسوسة، هي ميدان الحوار والنقاش في دعم وتأييد القواسم المشتركة ونقاط التوافق، وفي تقريب وجهات النظر بشأن نقاط الخلاف وفي التخفيف من تراكمات وترسبات العداوات والأحقاد الناتجة عن الحروب والصراعات السلطوية والتوسعية والاستعمارية السابقة، من خلال تعزيز فرص التعاون والتعايش والتعارف الإيجابي، قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).