البحوث العلمية... في الجامعات اليمنية...!!

01:16 2022/10/28

بدايةً...
البحوث العلمية والإنسانية في أي مجتمع هي الأداة الفعالة لحل مشاكله، وهي التعبير الحقيقي عن الحالة الحضارية التي وصل إليها ذلك المجتمع، فكلما زادت إنتاجية المجتمع البحثية والعلمية والفكرية، كلما زادت فرص ذلك المجتمع في التطور والرقي الحضاري، والعكس صحيح، ونحن في اليمن نجد أن الجامعات هي أهم مؤسسات تهتم بإعداد الأبحاث والدراسات العلمية، وتجعل من تلك الأبحاث متطلبات إجبارية على طلاب الدراسات العليا، لمنحهم شهادات (الماجستير- والدكتوراة). وهذه ظاهرة حضارية، ومشاركة من الجامعات في حل مشاكل وقضايا المجتمع المحلي، والمساهمة في رقيه وتطوره الحضاري، لكن تكمن المشكلة في العالم العربي عموما وفي اليمن خصوصا، في أن المردود العلمي والفكري والثقافي والمجتمعي والحضاري لتلك الأبحاث والدراسات على المجتمع، في حدود متدنية... لماذا...؟؟؟
 
لأن القائمين على تلك الأبحاث، يهتمون بمنهجية البحث، أكثر من اهتمامهم بالمادة العلمية والفكرية الناتجة من ذلك البحث، وأكثر من اهتمامهم بتنمية القدرات العلمية والفكرية للباحث، ويفرضون على الباحثين والدارسين قيودا تكبل قدراتهم العقلية والفكرية، من خلال إلزامهم بسلوك طرائق محددة للبحث، تركز 90 % منها على منهجية البحث وأساليب البحث وطرق البحث... إلخ، كما أنه يطلب من الباحث التقيد بها حرفياً ونصياً، وكأنها أحكام وتشريعات مقدسة، وذلك يتعارض تماما مع الحرية والاستقلالية التي يجب أن تُعطى للباحث، وبدلاً من أن يكون هذا الباحث مبدعاً مفكراً مجتهداً، يجعلون منه مجرد مقلد لمن سبقوه، والتقليد عبر التاريخ هو سبب تخلف وتراجع الأمم، ولا يمكن أبداً أن يصنع التقليد مفكرين ومبدعين ومجتهدين وعلماء...!!
 
وهذه الأساليب رغم أنهم يسمونها بطرق البحث العلمي، لكنها في الحقيقة تتعارض مع مفهوم البحث العلمي الحر، لأنها تقيد الباحث وتفقده القدرة على الإبداع والابتكار والتحديث كما أنها تفقد هذا المفهوم معناه الحقيقي. فبدلاً من منح الطالب كامل الحرية في البحث وتجميع البيانات والمعلومات من خلال قراءة الكتب والمراجع أو من خلال التجارب المعملية، وهي أفضل وسيلة لتنمية القدرات العقلية والفكرية للإنسان، والتي تمنحه القدرة الفعلية على الإبداع وخلق أفكار جديدة، أو بالطريقة التي يراها الباحث مناسبة لبحثه، وللعلم فإن إعطاء الباحث أكبر قدرا من الحرية في البحث قد تساهم في ابتكار طرق جديدة ومتعددة ومتنوعة للبحث...!!
 
لكن للأسف الشديد...
 
نجد القائمين على البحوث يلزمون الباحثين بسلوك طرق محددة لتجميع البيانات والمعلومات، مثلا عن طريق الاستبيان أو المقابلات الشخصية، مع عينات محددة من أفراد المجتمع، وقد يلجأ الباحث أحياناً إلى تعبئة تلك الاستمارات بنفسه بما يتناسب مع الفرضية التي وضعها. ومثل هذه الوسائل تهدد الكثير من وقت وجهد الباحث، في متابعة وملاحقة شريحة البحث، بدلاً من القراءة والاطلاع في الكتب والمراجع، وتنمية قدراته الفكرية والعلمية والإبداعية، كما أن الباحث يُضِيع الكثير من وقته في تجهيز وتعبئة وتفريغ تلك الاستمارات، ثم في تحليلها ووضع الجداول الإحصائية والرسوم البيانية، ويظل يعدل ويعدل في نتائج تلك الاستمارات حتى يصل إلى القيمة المعيارية التي تحددها المعادلة الإحصائية للمقياس البحثي الذي اعتمد عليه في بحثه...!!
 
وليست المشكلة هنا في تلك المعادلات والإحصاءات والجداول والاستمارات التي تستهلك معظم وقت الباحث، ولكن المشكلة الحقيقية تتمثل في أن كل تلك العمليات وذلك المجهود الكبير، ليس قائما على حقائق علمية ثابتة، ولكنها قائمة على آراء تلك العينة البشرية التي شاركت في الاستبيان، ومن المعلوم أن الآراء البشرية ليست ثابتة، ولكنها متقلبة ومتغيرة بتغير الحالة النفسية والصحية والاجتماعية لأولئك الأفراد ، فقد يكون رأي نفس الشخص في المساء مغايرا لرأيه في الصباح. عُمُومًا يذهب أكثر من 90 % من مجهود ووقت الباحث في تلك العمليات والجداول والمقاييس، و 10 % فقط تذهب للاهتمام في البحث في الكتب والمراجع المتعلقة بالمادة العلمية والفكرية. وبالتالي ونتيجة لانتهاج تلك الطرق البحثية المقيدة للقدرات العقلية والفكرية للباحثين، والتي تسمى بالطرق البحثية العلمية، نجد أن غالبية الأبحاث والدراسات مكررة وذات نمط متشابه، خصوصا الأبحاث المتعلقة بالجانب الإنساني...!!
 
ويترتب على ذلك...
 
عدم تنمية القدرات الفكرية والعقلية والبحثية والثقافية للباحث بالشكل الصحيح. وعدم احتواء تلك الأبحاث على مادة علمية وفكرية ذات فائدة، بقدر احتوائها على الجداول والإحصائيات والمعادلات والرسوم البيانية. وهي بذلك لا تقدم أي إضافات فكرية للمكتبات. كما أن القارئ العادي لا يستفيد منها، نظرا للتعقيدات والجداول والمعادلات الموجودة فيها. وفي نفس الوقت لا تقدم حلولاً ذات جدوى وفائدة لمشاكل المجتمع نتيجة التكرار والنمطية. لذلك يتم تكديس تلك البحوث والدراسات في أحد مكاتب الجامعة، والمهم هو الحصول على الشهادة. طبعاً من المهم إطلاع الباحث على كل المناهج البحثية، من باب المعرفة العلمية والفكرية، لكن ليس من العقل والمنطق أن نجعل منها قيودا تكبل عقول الباحثين بالشكل القائم اليوم في جامعاتنا اليمنية والعربية...!!
 
ونستنتج من كل ذلك أن التقيد الحرفي بمنهجية البحث التقليدية المفروضة على الباحثين في اليمن والعالم العربي، لها دور سلبي كبير، في عدم تنمية وتوسيع المدارك والقدرات العقلية والفكرية لشريحة كبيرة من هؤلاء الباحثين، نتيجة حصر قدراتهم العقلية والفكرية في الاهتمام بمنهجية البحث النمطية والمكررة. لذلك من الطبيعي أن نرى مساهمات هؤلاء الباحثين في الحياة العملية والعلمية والاجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمع اليمني والعربي، لا ترقى إلى المستوى المطلوب منهم كباحثين وبالذات الباحثين في الجوانب الإنسانية والاجتماعية والنظرية...!! ....