التجارة بالدين في عصر العلوم والتكنولوجيا

09:01 2023/03/31

التجارة بالدين واحدة من التجارات الرائجة والمربحة جدا، وهي من أقدم التجارات التي عرفها الإنسان، وقد اشتغل بها رجال الدين (الكهنة والعرافة والملوك والسلاطين والحكام)، وكانت تدر عليهم الكثير من الأرباح والكثير من الإنجازات والمصالح السياسية وتحقق لهم الكثير من الأطماع السلطوية والكثير من المكاسب المادية، فبالدين تم استغفال الشعوب والأمم ، وبالدين تمت السيطرة عليها والتحكم في حياتها ومصيرها، وتحظى تجارة الأديان بأهمية بالغة وتحقق نتائج باهرة، نتيجة ارتباطها بالجانب الروحي للإنسان، نتيجة سعيه المستمر لإشباع الجانب الروحي في داخله، وسعيه للحصول على حقيقة هذا الكون والحياة التي يعيشها ومصيره فيها، وهو ما فتح المجال واسعا أمام تجار الأديان في كل زمان ومكان، حتى بعد ظهور الأديان السماوية التي استطاعت أن تجيب على الكثير من تساؤلات الإنسان حول الكون والخالق وسر وجوده في هذه الحياة. 
 
وللأسف، رغم كل ذلك إلا أن تلك الأديان لم تسلم من الإتجار بها، وإن بوسائل وأساليب مختلفة ومتنوعة ومتعددة. فإذا كان تجار الأديان في السابق هم من يصنعون الآلهة (أصنام، بشر، حيوانات، ظواهر طبيعية) ويحددون الممارسات والطقوس الدينية فيها، فإن تجار الأديان السماوية (الكثير من الأحبار والرهبان وفقهاء السلطة ورجال الدين) قد جعلوا من أنفسهم وسطاء بين الله والبشر، وقد منحهم ذلك الحق في تفسير وتأويل آيات الله تعالى بما يتناسب مع أهوائهم ومزاجاتهم، كما منحهم السلطة في توزيع صكوك الغفران ومفاتيح الجنة لمن يشاؤون وكيفما يشاؤون وبالثمن الذي يحددونه، والحكام والسلاطين هم من يدير هذه التجارة وهم من يعقدون الصفقات مع رجال الدين لتخدير الشعوب وتسييرها بما ينسجم مع مصالحهم ويحقق أهدافهم السياسية وأطماعهم السلطانية، ليحول تجار الدين الأديان السماوية من مصادر لنشر الخير والسلام والصلاح والهداية والسعادة للبشرية، إلى مصادر لصناعة المزيد من الكراهية بين البشر وإثارة الصراعات والفتن بين الأمم والشعوب، ومصادر للشر والضلال والانحراف والشقاء والإنقسام، وللتغطية على أطماعهم السلطوية والتوسعية أضفوا القداسة على حروبهم وعدوانهم على الآخرين (الجهاد المقدس)، حيث قاموا بتحريف مقاصد وغايات الجهاد القائمة على الدفاع عن النفس ورد العدوان ورفع الظلم عن المظلومين والدفاع عن الحريات والحقوق الإنسانية إلى أداة لتبرير العدوان على الآخرين ونهب حقوقهم وأموالهم وإستعمار بلدانهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم وفرض معتقداتهم الدينية والمذهبية والطائفية على المخالفين لهم. فعن طريق الجهاد المقدس تمكن تجار الأديان في كل زمان ومكان إلى تجييش الجيوش وحشد المقاتلين لشن العدوان على الآخرين ونهب خيراتهم واستعمار أوطانهم (الحروب الصليبية)، مبررين كل ذلك بالدفاع عن الدين. 
 
وإذا كان تجار الأديان في العهود والأزمنة الغابرة هم من يصنعون الألهة ويضعون الشرائع ويحددون العبادات والفروض الدينية، فإنهم في العهود الزمنية الأخيرة من يقوم بالنيابة عن الرب وهم الوسطاء بينه وبين عباده، وهم المتحدثون باسمه والوكلاء عنه، فالسلطة والحكم والأموال والثروات حق لهم دون غيرهم، وبقية البشر ليسوا أكثر من عبيد لهم خلقوا في خدمتهم والعمل تحت أمرهم وسطوتهم ، فطاعتهم والامتثال لهم وتقديسهم. وتعظيمهم وتقديم الولاء لهم جزء أصيل من العقيدة وطاعتهم من طاعة الله تعالى. نعم، لقد تطورت التجارة بالأديان بشكل كبير خصوصاً في البلدان المتخلفة والجاهلة والفقيرة، لتتماشى مع تطورات الحياة العلمية والتكنولوجية، التي تم استغلالها لتجهيل الشعوب واستغفالها وتضليلها وتزييف وعيها، بدلاً من استغلالها لتوعيتها وتنويرها ورفع مستواها الثقافي والعلمي والمعرفي، وبكل صراحة فإن تجار الأديان في كل زمان ومكان، وخصوصاً في هذا العصر يتميزون بدهاء كبير منحهم القدرة على استغفال شعوب بأكملها رغم التطورات العلمية والتقنية التي تكشف زيف دعاويهم وانحراف وفساد أفكارهم ومخالفتها للشرع والعلم والعقل، ولله في خلقه شؤون. 
 
 والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: إذا كان العديد من البشر لا زالوا يقعون ضحايا الاتجار بالدين رغم ما وصلت إليه البشرية من التطورات العلمية في كل مجالات الحياة ، والتي تكشف بطلان وزيف وفساد بضاعة تجار الدين، فهل هناك فرص للبشرية في القضاء على هذه التجارة التي دمرت حياتهم وصنعت العداوة فيما بينهم، وهل هناك فرص للبشرية لاعتناق الأديان بشكلها الصحيح وفهمها بصورتها النقية الطاهرة البعيدة عن أهواء وأطماع ونزوات تجار الأديان، وإذا كنا نلتمس العذر للأمم والشعوب السابقة سقوطها في مستنقع تجارة الأديان، بسبب حالة الجهل والتخلف التي كانت تعيشها، فماذا نلتمس للشعوب الواقعة في هذا المستنقع في ظل ما وصلت إليه البشرية من تطورات علمية وتكنولوجية مذهلة، وماذا يمكن أن نوصف الكثير ممن يمتلكون درجات علمية وأكاديمية كبيرة وخبرات تكنولوجية متطورة، وهم يمجدون وينظرون ويروجون للتجارة بالأديان؟