التعصبات المذهبية والطائفية .. والتراجع الحضاري .

03:29 2023/09/04

من المعلوم أن التعصب بشكل عام ، من السلوكيات الإنسانية السلبية ، ونتائجة غالباً ما تكون سلبية ، وذلك لما للتعصب من تأثيرات غير إيجابية على النفس البشرية ، حيث يحجب عن العقل رؤية الحقيقة المجردة ، ويدفع الإنسان إلى القيام بتصرفات سلبية، وعدائية خارجة عن إرادته وسيطرته ، وهو بذلك يذهب بالإنسان بعيداً عن الموضوعية والعقلانية ، ويترتب على ذلك وقوع الإنسان المتعصب في براثن الضلال والخطأ، والزلل ، وقد يصبح بذلك أسيراً لفكرةٍ ضالة، أو لرأيٍ منحرف ، ولا تتوقف آثار التعصب السلبية عند هذا الحد ، بل قد تصل بالإنسان إلى دفع حياته بعلم، أو بدون علم، ثمناً للدفاع عن فكرة ضالة، أو رأي منحرف ، وهنا تتجلى فداحة وكارثية التعصب .!

لذلك، نجد أن إبليس عدو الإنسان التاريخي يشجع، ويحفز الإنسان دائمًا على التعصب ، و ذلك لمعرفته بما للتعصب من آثار ضارة، وخطيرة على دين الإنسان، وفكره، وحياته ، بينما نجد أن الدين الإسلامي يأخذ موقفاً مناقضاً ، حيث ينهى الإنسان عن التعصب ; لأنه يقود إلى كل السلوكيات السلبية ، وكان ولا يزال وسيظل ، الفكر الديني الناتج عن إجتهادات العقل البشري ، من أهم أسباب التعصب ، لأن الكثير من الناس عادةً ما يتعصبون لأرائهم، ومواقفهم، ومصالحهم ، حتى وإن كانت غير صائبة ، ومن المعلوم بأن الأراء والأفكار البشرية الصادرة عن العقل ، تتوقف على حسب الحالة النفسية لصاحب الرأي والإجتهاد ، فعادةً ما نشاهد الاجتهادات المتشددة والمتطرفة ، تصدر من أناس يعانون من اضطرابات، أو عُقد نفسية ، ونشاهد الاجتهادات المعتدلة والمتوازنة ، تصدر عن أناس يتمتعون بحالة نفسية مستقرة وهكذا ، وأياً كانت الحالة النفسية ، والحالة الاجتماعية للعاملين في مجال الفكر الديني ، لا يمكن أن ترتقي أفكارهم الصادرة عن العقل البشري ، إلى درجة الكمال، والوصول إلى مرتبة الحقيقة المطلقة ، وتظل في مرتبة النسبية ..

لأن الحقيقة المُطْلقة، لا يمكن أن تمتلكها مخلوقات أيا كانت ، من يمتلك الحقيقة المُطْلقة هو الله تعالى ، وبالتالي فٱن كل ما جاء من الله تعالى ، يجب الإيمان به كحقيقة مطلقة ، لا مجال للنقاش فيها أو الجدال ، فهناك قواعد ثابته في الدين ، يجب الإيمان بها كما أُنزلت ، وخصوصًا فيما يتعلق بالمعتقدات، والغيبيات ، ولا يجوز الاجتهاد فيها مطلقاً ، وهناك قواعد غير ثابته ، وخصوصًا فيما يتعلق بأمور الناس ومعاملاتهم الحياتية اليومية المتغيرة بتغير الزمان والمكان ، والتي جاءت على صورة قواعد عامة ، سواء في السياسة، أو الٱقتصاد، أو المعاملات ، لتكون التفاصيل والجزئيات متروكة لإجتهاد العقل البشري ، وهذا ما يعطي تلك القواعد ميزة المرونة ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان ، حتى تتناسب مع احتياجات الناس المتغيرة بتغير الزمان والمكان . وبالتالي، فإن الاجتهادات البشرية حولها تكون متعددة لأن كل مجتهد ينظر إليها حسب ثقافته الدينية ، وحسب خبرته الحياتية ، وحسب حالته النفسية ...الخ ..

لذلك تتعدد الآراء والاجتهادات حول مسألة واحدة ، وهذا ما يدفعنا للقول بأنه ليس من العقل، والحكمة التعصب لتلك الاجتهادات البشرية المتعددة، والمتنوعة ، والطريقة السليمة، والشرعية لكيفية التعاطي معها ، هي بعرض تلك الاجتهادات على غايات، وأهداف الدين العامة، وعلى العقل البشري، والمصلحة العامة ، فما تطابق منها مع الوحي، والعقل، والمصلحة العامة أخذنا به ، وما تعارض منها مع الوحي، والعقل رددناه ، وللعلم لا يوجد تعارض، أو تناقض بين الوحي الإلهي ( القرآن الكريم )، وبين العقل البشري وبين المصلحة العامة ، بل إنه التكامل والانسجام . والخطأ الفادح الذي وقع فيه المسلمين ، أنهم أعطوا اجتهادات أئمة المذاهب والفقهاء هالة من القداسة ، جعلت من تلك الاجتهادات البشرية ديناً يتم التعبد به ، كما ساهم ذلك في تسرب العديد من الخرافات والأساطير من ثقافات أخرى إلى الفكر الديني الاسلامي ، وللأسف لقد وجدت تلك الاجتهادات والاضافات والخرافات من يتعصب لها من المسلمين ، نتيجة الجهل والتخلف وتعطيل العقل المسلم عن البحث والتدبر والتفكر ، وقد أدى ذلك إلى انقسام الأمة إلى مذاهب وفرق وطوائف متصارعة ومتنافرة ، وما زاد الطين بله هو تدخل السلطات الحاكمة في دعم تلك التعصبات والانقسامات ، حيث كانت كل سلطة تدعم المذهب الذي يتوافق مع توجهاتها السياسية ..

وبذلك، زادت وتيرة التعصب بين أتباع المذاهب ، وللدلالة على تقديسهم وتعصبهم لتلك الاجتهادات ، سخروا وقتهم واجتهادهم للدفاع عنها وجمدوا عقولهم عند تفسيرها وشرحها وتوضيحها ، وفي دلالة على وصول التعصب المذهبي إلى أعلى درجات التقديس هو قيام أؤلئك المتعصبين بإغلاق باب الاجتهاد والاكتفاء باجتهادات أئمة مذاهبهم ، وهو ما قاد الأمة الى الجمود والتخلف ، لأن اغلاق باب الاجتهاد هو تعطيل للعقل ، وتعطيل العقل نتيجته الطبيعية ، هو التخلف ، والجهل ، والتراجع الحضاري ..وهناك ما هو أسوأ حيث ذهب التعصب الديني والمذهبي ببعض فئات المجمتع الاسلامي ، بعيداً بعيداً عن العقل والمنطق ، لدرجة جعل الخرافات والاساطير الدخيلة ( الفارسية والهندية والاسرائيليات ...الخ ) على الفكر والثقافة الاسلامية جزء من معتقداتهم الدينية ، ومنها على سبيل المثال خرافة تقديس وتعظيم البشر ، وما تقوم به بعض الطوائف الشيعية من شعائر وطقوس خلال زياراتها للمقابر في العراق ، تاركين الوحي الإلهي ، والعقل ، والمنطق ، والآيات والبينات والدلائل الكونية ، والعلوم المادية المحسوسة والمشاهدة ، خلف ظهورهم ..

كل ذلك، رغم أن الله تعالى قد أوجب على كل مسلم تفعيل عقله من خلال التدبر والتفكر والتأمل في الوحي الإلهي ، قال تعالى (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) ، وهذا يعني أنه ليس من الشرع  والعقل والمنطق ، أن تأخذ كل ما تسمع من الآخرين ، بدون تدبر وتفكر ، فإذا كان الله تعالى قد أوجب على المسلمين أن يتدبروا في آياته المقدسة ، التي تحمل في طياتها الحقيقة المُطْلقة ، فإنه من باب أولى يجب على كل مسلم ، أن يتفكر ويتدبر في كل الآراء والاجتهادات البشرية ، قبل أن يتعصب لها ، ويجعلها ديناً له . ولن أبالغ إذا قلت بأن التعصبات السلبية بكل صورها وأشكالها ، هي التي جعلت الأمة الاسلامية تقبع في مؤخرة الركب الحضاري ، وأحرمتها من الابداع والمساهمة الايجابية في مسيرة الحضارة البشرية ..

وما تعيشة الأمة الاسلامية ، وخصوصا الدول العربية من صراعات مذهبية واقتتال داخلي ، ماهو إلا نتيجة للتراكمات السلبية لتلك التعصبات. وبذلك، فإن السبيل الوحيد للأمة للخروج من أزمتها الراهنة والتحرر من تخلفها الحضاري ، هو التحرر من التعصبات بكل صورها وأشكالها ، وعلى الأمة أن تعلم علم اليقين ، أن كل ما تعانيه من سلبيات ليست إلا نتيجة للتعصبات ، وتعطيل العقل ..

وبذلك يمكنني الخروج من كل ما سبق بخلاصة هامة جدًا وهي أن تحرير عقولنا، وأفكارنا من التعصبات السلبية، وفي مقدمتها التعصبات المذهبية، والطائفية ، وإطلاق العنان لها للتدبر، والتفكر، والبحث، وعمل المراجعات الفكرية، والفقهية اللازمة لتنقية الفكر الديني، الإسلامي من الانحرافات، والشوائب، والخرافات، والأساطير التي لصقت به ، هي أول خطوة لنا في الطريق الصحيح .