الحِراثة في البحر ..!!

11:23 2024/01/02

قبل فترة من الزمن ، بعد دخولي في العالم  الإفتراضي الرقمي ( عالم وسائل التواصل الإجتماعي ) ، في بداية العام ٢٠١٥ م ، علق أحد أصدقائي على منشور لي بقوله :- ( لا تتعب نفسك إن الكتابة في العالم الإفتراضي ، بوسائل التواصل الإجتماعي ، كالحِراثة في البحر ) ، وبالفعل كل يوم وهذه المقولة تقترب أكثر وأكثر من الواقع ، فلا حياة لمن تنادي ، وهذا الكلام ينطبق كثيراً على مجتمعنا العربي عموماً ، وعلى المجتمع اليمني على وجه الخصوص ' وذلك نتيجةً لتدني المستوى الثقافي والفكري الجمعي ، وكذلك نتيجة للتعصب الديني والمذهبي والطائفي ، والتعصب الحزبي والسياسي ، والتعصب القبلي والمناطقي ، ولن أبالغ إذا قلت بأن أفضل ما يجيده مجتمعنا اليمني هو التعصب بكل أشكاله وأنواعه ، من تعصبات مذهبية ، وتعصبات لفكرة ، أو لرأي ، أو لشخص ، أو لحزب ، أو حتى لخرافة أو لقصة أو لأسطورة أو لمصلحة ، المهم أن التعصب هو سيد الموقف في مجتمعنا اليمني للأسف الشديد ' ومن النادر أن تجد هذا المجتمع يتعصب أو ينتصر للعقل والمنطق ..!!

والأمر لا يتوقف عند هذا الحد ' بل إن الكثير من الأشخاص المتعصبين لا يترددون من ممارسة العنف والقوة بل والقتل والعدوان على الآخرين انتصاراً لنزعاتهم التعصبية ، بل والموت من أجل ذلك ، ومجتمعاً تعشعش في ذهنية وفكر أفراده هكذا تعصبات سلبية ، ومجتمعاً يواجه الأفكار الوسطية والمعتدلة والعقلانية بكل صور الممانعة والرفض واللامبالاه وعدم الاهتمام ' من المؤكد بأنه سوف يعاني الكثير من المشاكل المعقدة والمركبة ، وحال المجتمع اليمني ليس من ذلك ببعيد ، فعندما تتكلم في أمور الدين والشرع ، وتحاول أن تنتهج منهج الوسطية والإعتدال ، الرافض لكل صور التعصب والتطرف والتشدد والغلو والكراهية والعنف ، تلاحظ أنك أصبحت شخصاً غير مرغوب فيه ، من كل المتعصبين المذهبيين والطائفيين ، وللأسف الشديد هم شريحة واسعة في المجتمع ، وذلك لأنك لم تدعم تعصباتهم المذهبية والطائفية ، ولم تناصر رؤيتهم الدينية الضيقة المحصورة في أراء أئمة مذاهبهم ، والتي يرون فيها الصواب والحق ، وكل ما خالفها هو الخطأ والباطل ، مهما كان مدعوما بالأدلة والبراهين ، وحتى لو استشهدت بآيات القرآن الكريم ، وبذلك لن يرضى عنك أطراف التعصبات المذهبية والطائفية ، إلا إذا إتبعت آراء مذاهبهم ، وأتبعت أهواءهم وتعصباتهم ..!!

وعندما تتكلم عن أمور السياسة .................. 
وتحاول أن تنتهج منهج الموضوعية والعقلانية ، القائم على أن الحزبية السياسة ، من الأمور المباحة ، باعتبارها وسيلة للتنافس الإيجابي ، في كيفية إدارة شئون الدولة ، وفي ضرورة دعم واختيار الحزب السياسي ، الذي يقدم أفضل البرامج السياسية ، التي تخدم المصالح العليا للوطن ، وتساهم في تنمية وتطوير وتقدم الحياة ، سوف تجد بأن غالبية المتحزبين ، قد فهموا الحزبية السياسية فهماً خاطئاً ، بحيث جعلوا منها غاية ، وتعصبوا لأحزابهم ، سواء كانت على حق أو على باطل ، بل وذهبوا للاقتتال فيما بينهم ، من أجل تلك الأحزاب ، وبذلك وبدلاً من أن تكون الأحزاب السياسية نعمة ، تحولت إلى نقمة ، وبدلاً من أن تكون وسيلة للتنافس الإيجابي لخدمة الوطن ، أصبحت وسيلة للتنافس السلبي لتدمير الوطن ، وبدلاً من أن تكون الأحزاب أداة لحماية المصالح العليا للوطن ، أصبحت أداة لحماية المصالح الشخصية لقيادات تلك الأحزاب ، وأصبحت المصالح الشخصية والحزبية ، مقدمة على المصالح العليا للوطن ..!!

فمهما حاول الإنسان إنتهاج منهج الموضوعية والعقلانية في التعاطي مع الخلافات والقضايا السياسية ، ومهما حاول تقديم المصالح العليا للوطن ، على المصالح الشخصية والحزبية ، فإنه يصبح عدواً لأصحاب التعصبات الحزبية ، وعدواً لأصحاب المصالح الشخصية ، وعدواً لأصحاب الأطماع السلطوية ، الذين جعلوا الحزب أغلى وأهم من الوطن ، وبدلاً من القبول بالرأي الآخر ، واحترام الرأي الآخر ، ومحاولة الاستفادة من النقد البناء والهادف والإيجابي ، فإن لسان حال المتعصبين والمتحزبين يقول ( إن لم تكن معي فأنت عدوي ) ، وإذا حاولت التحدث بموضوعية وعقلانية ، عن إيجابيات هذا الحزب ، أو هذا القائد السياسي ، أصبحت في نظر مخالفيه عدواً لهم ، ولن يرضوا عنك حتى تتخلى عن موضوعيتك وعقلانيتك ، وتتحول إلى مجرد شخص متعصب ، ينتقد كل شيء ، ويضع في عينية نظارات سوداء ، تجعله يرى كل شيء أسود ، حتى إيجابيات وحسنات الآخرين ، عليك إنكارها وجحودها ،بما يتوافق مع تعصباتهم وحزبياتهم ومصالحهم الضيقة ..!!

مفارقات عجيبة ..... 
تجعل مقولة صديقي ( الكتابة في العالم الافتراضي والرقمي كالحراثة في البحر ) أقرب إلى الواقع ، بل إن الكتابة بكل أشكالها حراثة في البحر خصوصاً في مجتمع متعصب دينياً ، ومذهبياً ، وسياسياً ، وحزبياً ، ومناطقياً وقبلياً ، في ظل تدني المستوي الفكري والثقافي ، لكن لا يعني ذلك ان نستسلم لهذا الواقع ، بل إن ذلك يتطلب من دعاة الوسطية والاعتدال والعقلانية ، ان يضاعفوا من جهودهم ، لأن السلاح القوي لمواجهة الأفكار السلبية والمتطرفة والمتشددة ، والدعوات التي تمجد الخرافات والأساطير ' يكمن في تبني افكار الوسطية والاعتدال ، وتمجيد العقل والمنطق ' فالفكرة لا تهدمها وتنتصر عليها إلا فكرة ، ولا مجال لمواجهة الفكرة أياً كانت بالسلاح والعنف والقوة والقتل ، بل إن هكذا أساليب قد تزيد المتعصبين لهذه الفكرة أو تلك تمسكاً وتعصباً ، وتتحول من مجرد فكرة إلى دين أو معتقد أو غاية ، وعلى كل حال تظل الحِراثة في البحر أفضل بكثير من اللجوء إلى السلاح والعنف والقتل ، لأن الحِراثة في البحر إن لم ينتفع بها أحد ' فإنها حتما لن تضر أحد ، بعكس الطريقة الثانية التي لن تجلب للمجتمع سوى المزيد من سفك الدماء والمزيد من الدمار والخراب ..!!