التجارة الدينية في عصر العلوم والتكنولوجيا

05:11 2024/04/01

التجارة الدينية واحدة من التجارات الرائجة والمربحة جدًا ، وهي من أقدم التجارات التي عرفها الإنسان ، وقد اشتغل بها رجال الدين ( الكهنة والسدنة والعرافة والقساوسة والرهبان ) ، وكانت تدر عليهم الكثير من الأرباح المادية ، ومن خلالها كانوا يحققون للحكام والسلاطين الكثير من المصالح السياسية والأطماع السلطوية . فبالدين التجاري تم إستغفال واستغلال الشعوب والأمم فترات تاريخية طويلة ، وتم السيطرة عليها والتحكم بحياتها ومصيرها ، وحظيت وتحظى التجارة الدينية بأهمية بالغة في كل زمان ومكان ، نتيجة ارتباطها بالجانب الروحي للإنسان ، الذي يحتاج للإشباع المستمر لإحداث حالة من الهدوء والاستقرار والراحة النفسية ، وكذلك نتيجة سعي الإنسان المستمر للحصول على أجوبة حول الكون والحياة التي يعيشها ومصيره فيها ، وهو ما فتح المجال واسعا أمام تجار الأديان في كل زمان ومكان ، حتى بعد ظهور الأديان السماوية التي استطاعت أن تجيب على الكثير من تساؤلات الإنسان حول الكون والخالق وسر وجوده في هذه الحياة ، إلا أن الأديان السماوية لم تسلم من الإتجار بها ، وإن بوسائل وأساليب مختلفة ومتنوعة ومتعددة ..

فإذا كان تجار الأديان في السابق هم من يصنعون الآلهة ، ويحددون الممارسات والطقوس الدينية لها ، ويحددون أنواع ومبالغ النذور المقدمة للآلهة ، فإن تجار الأديان السماوية ( الكثير من الأحبار والرهبان وفقهاء السلطة ورجال الدين )  قد جعلوا من أنفسهم وسطاء بين الله تعالى وعباده ،  ليوزعوا صكوك الغفران ومفاتيح الجنة على من يشاؤون وكيفما يشاؤون وبالثمن الذي يريدون .. ومن المسلم به، أن السلطات الحاكمة هي من توفر الحماية والترويج والدعم لهؤلاء التجار في كل زمان ومكان ، فبدون الحماية والرعاية السلطوية لا يمكن لهذه التجارة ان تزدهر وتنمو وتلقى رواجاً ، فالمصالح المتبادلة بين السلطات الحاكمة وتجار الأديان كبيرة وكثيرة ومترابطة ومتلازمة ، لتتحول الأديان السماوية بسبب التجارة الدينية من مصادر لنشر الخير والسلام والصلاح والهداية والتعاون والسعادة للبشرية ، إلى مصادر لصناعة الكراهية والتنافر والتباغض بين البشر وإثارة المزيد من الصراعات والحروب والفتن بين الأمم والشعوب ، ومصادر للشر والضلال والانحراف والشقاء والانقسام ..

ومن أسوأ نتائج التجارة الدينية إضفاء القداسة على الحروب السياسية والتوسعية والاستعمارية ( الجهاد السلطوي المقدس ) ، حيث قام تجار الأديان وخدم السلطان بتغيير مقاصد الجهاد الديني المقدس ذات الأبعاد المثالية والإيجابية ، كالدفاع عن النفس ورد العدوان ورفع الظلم عن المظلومين والدفاع عن الحريات والحقوق الإنسانية ، ليجعلوا منها أداة لتبرير العدوان على الآخرين وقتلهم ونهب أموالهم وممتلكاتهم وإستعمار بلدانهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم ، وفرض معتقداتهم الدينية والمذهبية والطائفية على المخالفين لهم . فعن طريق الجهاد السياسي المقدس تمكن تجار الأديان في كل زمان ومكان من تجييش الجيوش وحشد المقاتلين لشن الحروب العدوانية والتوسعية والاستعمارية على الآخرين ( الحروب الصليبية إنموذجاً ) ، ومثلها كثير من الأحداث التي حدثت قديماً ، وتحدث حاضراً ، وستحدث مستقبلاً ، تحت ذريعة الدفاع عن الدين ..

وإذا كان تجار الأديان في العهود والأزمنة الغابرة هم من يصنعون الألهة ويضعون الشرائع ويحددون الطقوس الدينية ، فإنهم في العهود الزمنية الأخيرة من يقوم بالنيابة عن الرب ، كوسطاء ( سماسرة ) بينه وبين عباده ، وهم المتحدثون بإسمه والوكلاء عنه ، بل لقد وصل الحال بالبعض منهم إلى القول بأن  طاعتهم والإمتثال لهم وتقديسهم. وتعظيمهم وتقديم الولاء لهم طاعة لله تعالى ، رغم تناقض ذلك مع التشريعات والأحكام الإلهية قال تعالى (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ))..

نعم، لقد تطورت التجارة الدينية بشكل كبير خصوصاً في البلدان المتخلفة والجاهلة والفقيرة ، وذلك عن طريق استغلال تطورات الحياة العلمية والإعلامية والتكنولوجية في تجهيل الشعوب واستغفالها وتضليلها وتزييف وعيها ، بدلاً من استغلالها لتوعيتها وتنويرها ورفع مستواها الثقافي والعلمي والمعرفي ، وبكل صراحة فإن تجار الأديان في كل زمان ومكان وخصوصاً في هذا العصر يتميزون بدهاء كبير ، كيف لا وقد استطاعوا استغفال العديد من المجتمعات البشرية رغم التطورات العلمية والتقنية ، التي تتناقض مع دعواتهم وتكشف مدى انحراف وفساد أفكارهم ومخالفتها للشرع والعلم والعقل والمنطق والتكنولوجيا والابتكارات العلمية والتقنية ..

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال ، إذا كان العديد من البشر لا زالوا يقعون ضحايا التجارة الدينية رغم ما وصلت إليه البشرية من التطورات العلمية في كل مجالات الحياة ، فهل هناك فرص للبشرية في القضاء النهائي على هذه التجارة التي دمرت حياتهم وصنعت العداوة والكراهية فيما بينهم؟، وهل هناك فرص للبشرية لفهم غايات وأهداف الأديان السماوية بصورتها النقية الطاهرة البعيدة عن أهواء وأطماع ونزوات تجار الأديان ؟. وإذا كنا نلتمس العذر للأمم والشعوب السابقة سقوطها تحت براثن التجارة الدينية ، بسبب حالة الجهل والتخلف العلمي والحضاري التي كانت سائدة آنذاك ، فماذا يمكن أن نلتمس اليوم للمجتمعات البشرية التي لا تزال تحظى فيها هذه التجارة بالرواج والقبول في ظل ما وصلت إليه البشرية من تطورات علمية وتكنولوجية مذهلة؟ ، وماذا يمكن أن نوصف الكثير ممن يمتلكون درجات علمية وأكاديمية كبيرة وخبرات تكنولوجية متطورة ، وهم يمجدون وينظرون ويروجون لهذه التجارة؟ ، وماذا يمكن أن نوصف علماء في مجالات تقنية وتكنولوجية وهم يسجدون لأبقار وأشجار وأحجار ، وهم يقدسون ويعظمون بشر أمثالهم ، ويسمحون لتجار الدين باستغفالهم واستغلالهم والسيطرة عليهم والتحكم بهم ؟؟