ذكرى"إنت عمري". عندما أصبح "التجديد" حتمياً .

08:05 2024/02/06

بخبرة سنوات طويلة من التألق واعتلاء عرش الغناء العربي،وسنوات قبلها من المعاناة والمثابرة والكفاح. إستشعرت كوكب الشرق السيدة "أم كلثوم" في بداية ستينات القرن الماضي، تغيراً واضحاً وفتوراً، في تجاوب وتلقي جمهورها الكبير لفنها الأصيل ،ففريق قل اهتمامه وشغفه، وفريق انصرف غير بعيد .

أسرعت "أم كلثوم" بمراجعة نفسها ، وأعادت حساباتها ،وتفكَّرت واستجابت لصوت العقل ، ولم تستند إلى رصيد كبير لدى الناس تمتلكه ولا شك . فهي تدرك بعمق تجربتها وطولها ، أن رصيداً قد جمعته في عقود ، ربما تفقده في بضع سنين ، وحينها لن ينفعها ندم ولن ينقذها عتاب . فكان القرار الذي -رغم تأخره-قد بدا قراراً صائباً حكيماً ضرورياً .

أدركت أنها تحتاج إلى تغيير ما، أو تجديد وتعديل في فريق العمل الذي أجاد وأبدع وأمتع،رامي والسنباطي وزكريا والقصبجي وبيرم وغيرهم ، وقد صنعوا لها-دون جدال- من الغناء مجداً تليداً، ومن له في الغناء ومجدها . 
لجأت بعد تردد واستشارة، ثم بحث واستقصاء إلى الشاب المبدع "بليغ حمدي"، ليصنع لها رداءً جديداً يتماشى وروح العصر،يراه بها الناس فيستحسنوه، وتظل هي بداخله بروحها وقلبها وعقلها .

إلا أن الرهبة التي أصابت هذا الشاب المبدع، وهو يقف أمام هذا الصرح العظيم، ويتحمل المسئولية أمام الشرق كله ، وخوفه من صدمة استقبال التغيير، والتي ربما تكتب نهايته الفنية رغم حداثتها ، جعلته يصنع لها بموهبته الطاغية رداءً قشيباً مزركشاً ، لكنه تشابه إلى حد ما مع أزياءٍ صنعها لها عظماء من قبل واستملحها الناس،فغنت له روائع"حب إيه" و"أنساك" و" ظلمنا الحب"، بألحان سنباطية الهوى، معتادة النسق ، تستحسنها الآذان والقلوب ، قد أحدثت بالفعل حراكاً ، ولكنها لم تحوِّل مساراً ولم تبدأ عهداً جديداً مختلفاً .

قررت السيدة قراراً امتنعت عنه طويلاً، وترددت فيه مراراً ، وتظاهرت بأنها تلبي فيه في ذلك الوقت رغبة وطلب الرئيس عبد الناصر ، إنما في حقيقة الأمر كان هو ملاذها الأخير ، والذي ربما تدخل دونه في نفق مظلم. فلم يكن هناك مناص من اللجوء إلى خبير الخبراء، وحامل لواء تجديد الموسيقى العربية بعد الشيخ سيد درويش ، موسيقار القرن محمد عبد الوهاب .

ماذا فعل الأستاذ الكبير في مثل هذا الأسبوع منذ ستين عاماً بالتمام، وفي الخميس الأول من فبراير عام ١٩٦٤ . قرر هذا العبقري أن تواجه "الست" جماهيرها العربية من المحيط إلى الخليج ،بلحن يُغير فيه المنهج، ويجدد فيه الأدوات والوسائل ، ويستلهم فيه روح العصر ، ويسترضي به رغبة الجمهور ، فمن غيره يمتلك جرأة المواجهة، وقدرة استبقاء "أم كلثوم" على عرش الغناء .

كانت أغنية "إنت عمري" أول تعاون بين العملاقين عبد الوهاب لحناً وأم كلثوم غناءً ، الأمر الذي حاول "طلعت باشا حرب" أن يبدأه قبل ذلك بقرابة ٣٠ عاماً بفيلم من انتاج استوديو مصر ولم ينجح . 
إختار عبد الوهاب كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل الذي يكتب لسيدة الغناء شعراً عاطفياً للمرة الأولى، واستهل عبد الوهاب لحنه بآلة غربية حديثة هي "الجيتار الكهربي" ، وجعل موسيقاه جزءً أساسياً من العمل الفني، تستعذبه الناس وتنصت له وتصفق وتقاطع وتطلب إعادته، ولا تكتفي فقط بالطرب والشجن المعتاد من صاحبة الصوت الفريد .

كان هذا اللحن وكانت هذه الأغنية ، التي من وجهة نظر الكثيرين ومنهم أديب نوبل "نجيب محفوظ" ليست الأفضل بين أعمال "الست" . ولكنها - في رأيي- كانت هي النداء الذي استدعت به الناس جميعاً شيوخهم وشبابهم ، جمهورها وآخرين ، لتجمعهم حولها للإستماع إلى ما عندها من جديد ، وتضع معهم دستوراً مختلفاً صاغت بمقتضاه عدة قوانين فيما بعد، أتاحت بها التنافس بين المبدعين من الملحنين والشعراء، ومنحتهم حرية التعبير عن إبداعاتهم ، وسمحت أن يتلقى العازفون معها على المسرح مايستحقونه من إشادة وتقدير ، وأعلنت من نفس مكانها المرموق عن بداية العهد الجديد ، فاستطاعت بهذا التحوّل الكبير والاستجابة لرغبة جمهورها أن تبقى على عرش الغناء، تقدم فناً متنوعاً متجدداً مبهراً ، وتقدم أيضاً روائع جديدة لفريق عملها القديم ، استقبلتها الناس أعظم استقبال، مثل درة أغانيها "الأطلال"، لأمير النغم الشرقي العظيم رياض السنباطي، فظلت على عرش الغناء العربي متربعة، حتى "حكم عليها الهوى" .

السؤال الذي يستوقفني، هل كانت مجرد صدفة !! أن يجعل الأستاذ "محمد عبد الوهاب"  الست "أم كلثوم" تقف على المسرح وتغني أمام الملايين - في أول لقاء بينهما - وتعترف بخطئها في تأخر التعامل بينهما قائلة :

اللي شوفته قبل ماتشوفك عينيه 
عمر "ضايع " يحسبوه إزاي عليّا ؟!.

وهل أيضاً كانت مجرد صدفة!! أن يجعلها تشهد له ولأسلوبه المهيمن، وتقر وتعترف ببداية عهدها الجديد في كل مقطع قائلة:

إنت عمري اللي "ابتدا" بنورك صباحه .

وكأنه يجعلها تشهد له أمام الملايين وتقول :
إنت عمري اللي"ابتدا"( بعودك )صباحه. إنت عمري.
تحية لروح سيدة الغناء العربي في ذكرى وفاتها
٣ فبراير ١٩٧٥.

وزير السابق للرياضه بجمهورية مصر العربية و ناقد الفني معروف