الفكر الإيجابي والصعود الحضاري

04:33 2023/06/05

إن التاريخ الحضاري الإنساني، وهو يسرد لنا الكثير من حالات الصعود والسقوط والتراجع الحضاري للأمم، يجعلنا نقف أمام حقيقة تاريخية وحضارية، وهي أن التراجع الحضاري لأي أمة من الأمم أمر وارد وممكن في كل زمان ومكان. وبذلك، فإن ما تعيشة الأمة العربية اليوم من حالة تراجع حضاري ليس بالأمر الجديد، وليس نهاية المطاف. فكل الأمم البشرية تتأرجح بين الصعود والتراجع الحضاري. وبذلك، فإن التراجع ليس عيباً فهناك الكثير من العوامل الطبيعية والبشرية التي تساهم في ذلك التراجع. بل إن العيب الحقيقي يكمن في الاستسلام والقبول والتعايش مع ذلك التراجع. 
ويتحمل قادة الفكر والرأي الكثير من المسؤولية في مثل هذه الظروف، وخصوصاً أولئك الذين يتبنون الترويج لثقافة اليأس والاحباط والعجز من خلال تذمرهم المستمر والمتواصل من أوضاع وحال الأمة وتركيزهم الدائم على الجوانب السلبية والخلافية. بل إن الحال قد وصل بالبعض منهم للترويج والتنظير لمشاريع سياسية وتوسعية أخرى تعمل بكل قوة على هدم المقومات الحضارية للأمة العربية، ولم يتوقف بهم الحال عند ذلك. فهم عند كل شاردة وواردة لا يترددون من الهجوم السلبي المتواصل على الهوية والقومية العربية، بهدف الانتقاص من شأنها، ومن خلال إصدار التعميمات السلبية والمتشائمة. كل ذلك رغم أن القومية والهوية العربية هي القاعدة الأساسية والركيزة الرئيسية لاستنهاض الفعل الحضاري العربي. فالهوية والقومية هي بمثابة الدافع والمحرك الرئيسي لأي فعل حضاري. 
 
ونحن هنا لا ننكر بأن هناك سلبيات كثيرة سائدة داخل المجتمع العربي، ولا ننكر بأن الأمة العربية تعيش حالة من التراجع الحضاري وحالة من التبعية السياسية والفكرية والثقافية لحضارات أخرى. وهذا هو الوضع الطبيعي لأي أمة تعاني من حالة التراجع الحضاري، لكن المفترض بقادة الفكر والرأي والثقافة ألا يستسلموا لهكذا حال. بل عليهم استنهاض همم الأمة الفكرية والحضارية من خلال تبني الفكر الإيجابي الذي يشجع على النهوض الحضاري، ومن خلال الابتعاد عن الأفكار والدعوات السلبية والخلافات والتعصبات التي كانت وماتزال من أهم عوامل التراجع الحضاري الذي تعاني منه الأمة اليوم، ومن خلال تبني الأفكار والدعوات الأيجابية الجامعة والموحدة، ومن خلال صناعة الثقة بالنفس داخل كل فرد من أفراد الأمة، ومن خلال مواجهة كل المشاريع التوسعية الخارجية التي تستهدف مقومات وثروات الأمة. 
 
ومن خلال الالتفاف حول المشروع القومي العربي، فلا نهضة للعرب ولاوصعود حضاري للعرب إلا من خلال مشروع قومي عربي جامع. ونجاح هذا الأمر يتطلب تجاوز كل الخلافات والتعصبات، ويتطلب التنظير الإيجابي لمقومات وامكانيات النهوض الحضاري الذي تمتلكها الأمة العربية، ومن خلال تمجيد مآثر وتاريخ القومية العربية وبطولاتها الخالدة خلال نهضتها وصعودها الحضاري الكبير خلال الحضارات العربية القديمة في جنوب وشمال الجزيرة العربية والتي استمرت آلاف السنين وخلال الخلاقة العربية بعد ظهور الإسلام والتي استمرت مئات السنين. 
 
نعم، نحن نعيش حالة من التراجع الحضاري نتيجة عوامل كثيرة، من أهمها تكالب الأمم الأخرى على مقدراتنا وإمكانياتنا وثرواتنا كوننا نقع في موقع جغرافي متميز يحتوي على الكثير من الثروات الطبيعية ويسيطر على أهم الممرات المائية وطرق التجارة العالمية وعلى الشواطئ الدافئة ومهبط الديانات السماوية، ونتيجة الخلافات العربية العربية، ونتيجة التعصبات المذهبية والطائفية، وغيرها، لكننا في نفس الوقت نمتلك كل مقومات النهوض والصعود الحضاري. وكل ما ينقصنا هو التنظير الثقافي والفكري ومواجهة حالة اليأس والاحباط والتذمر التي يقودها بعض المفكرين والمثقفين المحسوبين على العرب، والتي تخدم مشاريع خارجية توسعية من مصلحتها استمرار حالة اليأس والإحباط والتذمر والخلاف بين العرب لتنفيذ أجنداتها التوسعية على حساب الأرض العربية وتحقيق مصالحها الاقتصادية على حساب الثروات العربية وتحقيق مكاسبها السياسية على حساب السيادة والكرامة العربية. 
 
ختاماً، من غير الممكن استنهاض الفعل الحضاري العربي، ومن غير الممكن تحقيق أي صعود حضاري عربي. ولايزال هناك الكثير من العرب، مثقفين ومفكرين وحتى مواطنين، يستنقصون من هويتهم وقوميتهم ويهاجمونها ويزدرونها. فالأمم التي تريد العلياء والصعود الحضاري، على كل فرد فيها أن يفاخر بهويته وقوميته وتاريخه وتراثه وثقاقته، وانتهاج النقد الايجابي والهادف بدلاً من النقد السلبي الهدام، وتجاوز كل خلافاتهم وتعصباتهم الضيقة لمصلحة قوميتهم الشاملة والجامعة والالتفاف حول المشروع القومي العربي والتخلي عن المشاريع المذهبية والطائفية والمناطقية الصغيرة، وذلك لأن الصعود والنهوض الحضاري هو تراكم للايجابية على كل المستويات الرسمية والمجتمعية والفردية ' كما أن التراجع الحضاري هو نتاج تراكم للسلبية على كل المستويات. فمن ينشد الصعود الحضاري لأمته العربية عليه أن يكون إيجابي في موقعه وفي أفعاله وأقواله ومواقفه وكتاباته ونقده، فالإيجابية هي طريق الصعود الحضاري.