الممانعة الحضارية

05:59 2024/03/01

من حق جميع الأمم والشعوب أن تستفيد من إنجازات وتطورات وابتكارات الحضارة البشرية ، لأن جميعها قد شاركت بصورة أو بأخرى في ما وصلت إليه تلك الحضارة ، ومخطئ جداً من يظن بأن ما وصلت إليه الحضارة البشرية من حداثة وتقدم ، هو مجهود أمة واحدة فقط ، لأن جميع الأمم والشعوب قد ساهمت في ذلك عبر التاريخ البشري الطويل ، كما أن كل إنسان لديه القابلية للتعاطي الإيجابي مع التطورات الحضارية ، وفهمها والاستفادة منها ، والمشاركة في تطويرها وتحديثها ، إذا أتيحت له الفرصة في القيام بذلك ، لأن الله تعالى قد زود جميع البشر بالعقل ، الذي هو أداة التفكير والتدبر والفهم والإبتكار والتأمل والإختراع ، وبذلك فإن الفارق الوحيد بين الأمم المتطورة والمتخلفة سواء سابقاً أو حالياً أو مستقبلاً ، يكمن في نوعية البيئة الفكرية والسياسية والعلمية السائدة فيها ، فإذا كانت البيئة السائدة بيئة علمية وفكرية وسياسية منفتحة ، فإنها سوف تكون في مصاف الأمم المتطورة ، وسوف تكون في مقدمة الركب الحضاري ، وإذا كانت البيئة السائدة بيئة جاهلة ومتخلفة ومنغلقة ، فإنها سوف تكون من بين الأمم المتخلفة ، وسوف تكون في مؤخرة الركب الحضاري ، وبذلك فإن الفارق الحضاري بين الأمم ، لا يكمن في العقول كون الجميع يمتلكون عقولًا قادرة على الإبداع والإبتكار ، ولكن الفارق يكمن في البيئة السائدة ..

وأهم عوامل البيئة السائدة ، هو نوعية نظام الحكم فإذا كان نظاماً عادلاً ومنفتحاً وتقدمياً وديمقراطياً ، كانت البيئة مناسبة للبحث العلمي والفكري ، وكانت مناسبة للتطور والتقدم الحضاري ، وإذا كان نظاماً ظالماً ومنغلقاً ورجعياً واستبدادياً ، كانت البيئة غير مناسبة للبحث العلمي والفكري ، وكانت غير مناسبة للتطور والتقدم الحضاري ، وذلك لأن البحث العلمي والفكري يحتاج لمساحات شاسعة من الحرية والعدالة . ففي ظل الحرية والعدالة والديمقراطية ، تنمو أشجار المعرفة والبحث والثقافة والفكر ، وتترعرع في أحضانها كل صور الإبداع والإبتكار ، وثمار ذلك كله هو التطور والتقدم الحضاري. وفي حال إنعدام مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية ، وهيمنة مبادئ الظلم والاستبداد ، فإن أشجار الفكر والبحث والثقافة تصاب بالقحط والجفاف والجمود والركود ، ما يترتب عليه التخلف والتراجع الحضاري ، وبقراءة حالة المجتمعات العربية ، فإن هناك الكثير من عوامل الممانعة الحضارية ، والتي تسببت بشكل كبير في ما تعانية هذه المجتمعات من التخلف والتراجع الحضاري ، ومن أهم تلك العوامل أنظمة الحكم الاستبدادية والقمعية والرجعية ، التي لا تولي أي إهتمام للجوانب العلمية والبحثية والفكرية والثقافية ، وإذا كان هناك إهتمام فإنه لا يعدو أن يكون مجرد إهتمام شكلي فقط ، وليس إهتمام محوري كما يجب أن يكون ، بل إن بعض آنظمة الحكم العربية توجد بداخلها قوى نفوذ دينية وسياسية واجتماعية جاهلة ومتخلفة ، تعمل جاهدة على تجهيل المجتمع ، وتعمل على محاربة كل صور الإبداع والإبتكار ، وتعمل على التدمير الممنهج لكل ما له علاقة بالعلم والفكر والبحث ، فهي ترى في ذلك عدواً لها ، كون بيئة الجهل والتخلف هي البيئة المناسبة لبقائها وإستمرارها ..

وقد تستخدم قوى النفوذ الجاهلة والمتخلفة ، العديد من الوسائل لمحاربة كل جهود التطور والتقدم الحضاري ، فقد تستخدم بعض النصوص والأحكام الدينية بعد تحريفها وتحويرها وتفريغها من معانيها وأهدافها الحقيقية ، وقد تستخدم بعض العادات والتقاليد المجتمعية البالية ، لتشوية كل ما له علاقة بالتطورات الحضارية ، لذلك فإن هناك معركة مستمرة بين قوى النفوذ الجاهلة والمتخلفة في المجتمعات العربية ، وبين كل ما له علاقة بالتطور والتقدم الحضاري ، وهذا يمثل عاملاً من أهم عوامل الممانعة الحضارية ، وما تعانيه المجتمعات العربية من التخلف والتراجع الحضاري ، هو الوضع الطبيعي في ظل وجود قوى نفوذ جاهلة ومتخلفة متحكمة بقرارها ومصيرها ، وبذلك فإن ما تعانية المجتمعات العربية من تخلف وتراجع حضاري ، ليس بسبب العقول العربية ، فالعقل العربي لديه القدرة على الإبداع والإبتكار والمساهمة الحضارية ، مثله مثل غيره من العقول البشرية الأخرى ، إذا أتيحت له الفرصة والبيئة المناسبة ، وتوفرت له كل متطلبات البحث والدراسة والإبداع والإبتكار ، والسبب الحقيقي في تراجع وتخلف المجتمعات العربية ، يكمن في نوعية أنظمة الحكم ، وفي قوى النفوذ الجاهلة والمتخلفة ، التي تسيطر على قرارها ومصيرها .